كيف تتم تهدئة الاضطراب الذي يشهده الاتحاد الأوروبي

TT

مدريد - بعد مرور ثلاثة أعوام على بداية أخطر أزمة اقتصادية منذ عام 1929 وبعد عام من توقيع معاهدة لشبونة التي كان هدفها توحيد أوروبا، ما زال الاضطراب المالي مستمرا عبر قارة أوروبا ولا يستطيع مجلس أوروبا أو اللجنة الأوروبية أو البنك المركزي وضع حد لها. تبدو الدول الأعضاء بمفردها بلا حول ولا قوة كحال المستضعفين أمام خبراء الاقتصاد الذين يرون أن الإجراءات الخجولة التي تم اتخاذها حتى هذه اللحظة دعوة للاستمرار في تصعيد هجومهم.

يمكن القول بإيجاز، إن الأزمة المالية في بداية القرن الواحد والعشرين كشفت عن أزمة إدارة في قلب المشروع الأوروبي. ويعد الاتحاد الأوروبي اليوم واقعا في فخ تناقض اتحاد نقدي يفتقر إلى القدرة على التنسيق بين السياسات الاقتصادية والمالية. من الواضح عدم إمكانية استمرار تطبيق سياسات متباعدة بين دول مختلفة داخل سوق داخلية بلا حدود تعتمد عملة واحدة.

لهذا، تقف أوروبا في مفترق طرق تاريخي في مواجهة ثلاثة خيارات. الأول هو الاستمرار في العمل المعتاد ويعني هذا التماشي مع العاصفة التي تبدو بلا نهاية يوما بيوم في ظل مزاعم متضاربة بمصالح قومية على المدى القصير تغذي ردود الفعل الوطنية وتثير الشكوك الأوروبية. سنستمر في ملاحقة خبراء الاقتصاد بتصريحات أكثر رصانة توضح عدم التخلي عن أي دولة وتركها تواجه مصيرها وحدها. وسيتم اتخاذ خطوات مبدئية لتعديل المعاهدات ذات الصلة من أجل تخطي عقبات محددة. سينقلب الرأي العام ضد الإصلاحات الهيكلية التي ترى أنها «مفروضة من الخارج كثمن لاستعادة ثقة السوق».

الخيار الثاني هو الخضوع للضغط الذي يمارسه من يريدون العودة إلى منطقة تجارة حرة بسيطة دون اعتماد عملة موحدة وسوق داخلية. يعني هذا استغناء كل دولة عن عملتها وتخفيض قيمة العملة بشكل تنافسي حتى تخرج من مأزق على المدى القصير بدلا من تبني سياسات على المدى الطويل تجعل هذه الدولة قادرة على المنافسة عالميا. عندما نكون في حاجة إلى أن يظل الاتحاد الأوروبي متصلا بالاقتصاد العالمي، سيعد ذلك استسلاما إلى مباعث قلق تاريخية.

الخيار الثالث هو المضي قدما بعزم في اتجاه تحويل السياسات الاقتصادية والمالية إلى نظام فيدرالي. وأرى أن هذا هو الطريق الصحيح لأنه هو السبيل الوحيدة لتعافي أوروبا من الأزمة المالية التي تقبض عليها اليوم ولتملك القدرة التنافسية التي تمكنها من التحكم في مصيرها في الاقتصاد العالمي.

ومن المنطقي أن تكمل عملية التحويل إلى نظام فيدرالي سياسات خارجية وأمنية مشتركة، تكون المعاهدة الحالية مرجعا لها. وهنا يظهر تباعد آخر يعوق اتخاذ موقف أوروبي موحد على الساحة العالمية، ففي حين تشير استطلاعات الرأي إلى اعتقاد الشعوب الأوروبية إلى أنه علينا التحدث ككيان واحد، نادرا ما يتورع السياسيون الطموحون عن إذكاء نار النزعات القومية.

ينبغي على مجلس أوروبا أن يقود هذه الجهود المبذولة في هذا الشأن، فضلا عن موقف عالمي موحد يتضمن اقتراح إدخال تغييرات ضرورية على الاتفاقيات الأوروبية، حتى وإن كان من المتوقع رفض بعض دول الاتحاد المشاركة في هذه الخطوة. لا يجب أن يثبط التكتم من جانب أي دولة عزم الدول التي تريد اتباع هذه السبيل.

يتطلب الخروج من الأزمة الحالية والمضي قدما تنفيذ ما يلي:

* العمل على تحقيق التجانس بين اللوائح والقواعد المنظمة للمؤسسات المالية العاملة في الاتحاد الأوروبي. من السخف أن تحافظ الدول الأعضاء على قواعد مختلفة في هذه المساحة المشتركة المتكاملة التي تعمل بها مؤسسات مالية بحرية. سيبذر غياب القواعد المتناغمة بذور الأزمة المالية القادمة وسيعوق أوروبا لعقود مقبلة في مواجهتها لتحديات جديدة، خاصة بالتنافس على مستوى الاقتصاد العالمي.

ينبغي أن يتم عمل هذا الإطار التنظيمي الجديد بالاتفاق مع الولايات المتحدة كما اقترح في قمة العشرين. وينبغي أن تكون إدارة النظام المالي العالمي متسقة بين الكيانات السيادية.

* الحفاظ على سياسات مالية غير دورية لضمان الانتعاش. من المبكر أن نعول على السياسات لتحفيز انطلاق الاقتصاد القائم على الإنتاج الحقيقي، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة. وقررت إدارة أوباما الحفاظ على اتخاذ تدابير غير دورية في مواجهة التعافي البطيء المستفز. ينبغي على أوروبا أن تقوم بذلك هي الأخرى. رغم استنفاد بعض الدول مثل اليونان أو إسبانيا لحرية اتخاذ القرارات المالية وبالتالي اضطرارها إلى القيام بإصلاحات اقتصادية كبيرة من خلال خفض كبير في الميزانيات، على الدول الأخرى التي لم تستنفد كل الوسائل المتاحة مثل ألمانيا أن تقود المسيرة. ينبغي أن يشارك كل من بنك الاستثمار الأوروبي وصندوق الاستثمار الأوروبي في هذه الجهود المحفزة من خلال تطوير بنية تحتية ضرورية في مجالات مثل الطاقة وتكنولوجيا المعلومات الجديدة التي من شأنها أن تخلق فرص عمل وتنهي وضع عنق الزجاجة، مما يؤدي إلى زيادة القدرة التنافسية لأوروبا على مستوى العالم.

* تحويل السياسات الاقتصادية والمالية إلى نظام فيدرالي. ينبغي أن توافق الدول على متطلبات عمل ميزان مدفوعات مشترك وحد أدنى متوافق للضرائب. من شأن هذه الخطوة أن تثبت حاجة الدول إلى تبني إصلاحات هيكلية عميقة مثل اعتماد المزيد من المرونة في أسواق العمل الصارمة للمساعدة في تعزيز القدرة التنافسية.

أعتقد أن أكثر الأوروبيين لا يعارضون تقاسم السيادة من خلال هيكل فيدرالي. ما يرونه غير مقبول هو الخضوع لإصلاحات تشكك في الحقوق الاجتماعية التي تم الحصول عليها عبر عقود كاستجابة على المدى القصير لأزمة مالية لم يتسببوا فيها بالأساس. ويريد المواطنون الأوروبيون حلا طويل المدى للتحديات الفعلية التي يواجهونها لا ثمن تمليه عليهم أسواق تبدو مسيطرة على حكوماتهم. وهم يستحقون مثل ذلك الحل. وسواء كان الأمر متعلقا بالإصلاحات الخاصة بالمعاشات والرعاية الصحية لكبار السن من السكان أو التخفيف من الصرامة المؤسسية لنظام العلاقات الصناعية الخاص بهذه الدول أو الاتجاه بعيدا عن عدم اكتفائنا الذاتي فيما يخص الطاقة، لن تكون الإصلاحات العميقة ممكنة إلا إذا توافر شرطان، الأول هو توضيح أن الهدف هو الحفاظ على النموذج الأوروبي للترابط الاجتماعي لا تدميره. أما الثاني فهو إدارة النظام المالي بحيث يخدم الاقتصاد القائم على الإنتاج لا النشاط القائم على التكهن.

يستنزف الاستمرار في التورط في هذه الأزمة طاقة أوروبا ويقوض ثقتها التي تحلت بها بعد الحرب الباردة وكذلك تعوق رؤيتها. يحتم التاريخ علينا أن نتقدم بشجاعة، فإذا لم نلب هذا النداء، سيتخطانا العالم الذي يتغير سريعا.

* رئيس وزراء إسبانيا سابقا وعضو مؤسس في مجلس القرن الواحد والعشرين تحت رعاية معهد «نيكولاس بروغرين»

* خدمة «غلوبال فيوبوينت» - «تريبيون ميديا سيرفيس»