الشيخ بديع.. بين الخريف والربيع

TT

تحدث داعية سعودي شهير الأيام الماضية عن أن التعصب الديني السائد الآن هو صناعة أسهم فيها كثيرون، على رأسهم الدعاة أنفسهم! وقد تناقلت مواقع الأخبار على الإنترنت تصريحات الداعية اللافتة حول أن «الدعاة» هم أصل مشكلة التعصب في العالم العربي، ودعوته الحكام العرب للتدخل لنزع فتيل التعصب وإشاعة الخطاب الإسلامي المعتدل، وتشديده على أن الله سمانا المسلمين وليس «الإخوان» أو السنة أو الشيعة. وحث هذا الداعية السعودي، المصريين على الوحدة والتكاتف، أقباطا ومسلمين.

وذلك طبيعي على خلفية تفجيرات كنيسة الإسكندرية.

متوقع طبعا أن يثير كلامه هذا غضب كثير من أبناء تيار الصحوة، بل هم ثاروا بالفعل، ولذلك فلن يكون غريبا أن يتراجع الرجل أو يخفف من أثر كلامه.. هذا أمر معتاد في الساحة الإعلامية والدعوية، الكر والفر.

الأهم في نظري كان كلام مرشد الإخوان المسلمين في مصر.

وقبل أن أنتقل إلى تعليق «مرشد الإخوان» في مصر حول نفس الأمر، أود أن أوضح للبعيدين عن «جو» المشهد، مشهد الثمانينات والتسعينات الصاخب سعوديا، فإن مصطلح الصحوة هو اصطلاح و«مواضعة» بحثية وإعلامية أطلقت على المنتمين لتيار الإسلام السياسي في السعودية ودول الخليج أيضا، تمييزا لهم عن أبناء التدين التقليدي العادي غير الثوري أو المالك لرؤية تغييرية شاملة أو بعبارة أخرى «مشروع» إسلامي، ولم يقل لهم «الإخوان» فقط، مع أن تيار «الإخوان» هو في صلب حركة الصحوة، لأن الصحوة مظلة تشمل «الإخوان» مع كل تيارات الإسلام السياسي مثل السلفيين السياسيين في الكويت أو «السروريين» في السعودية.

هذه المصطلحات والأوصاف هي للتقريب والتسهيل، ذات فائدة عملية و«إجرائية» في اللغة البحثية والإعلامية، حتى ولو رأى كاتب سعودي كتب قبل أيام السعوديين، أنه لم يجد أحدا من أبناء الصحوة اعترف أنه «سروري» أو استلطف هذه التسمية، ولذلك – بزعمه - لا يجوز، عمليا وأخلاقيا، أن نطلق الأسماء على التيارات الفكرية والسياسية إلا حسبما يفضل أهل التيار أن يتسموا به! وكأن فرقة المعتزلة في التاريخ الإسلامي، مثلا، كانت تسمي نفسها - بكل ود - بالمعتزلة وليس أهل «العدل والتوحيد» كما هي التسمية المحببة لديهم!

أعتذر على هذا الاستطراد «المقصود» وأعود إلى تعليق الدكتور محمد بديع، «مرشد الإخوان» في مصر، حيث كتب رسالة يعلق فيها على تفجيرات كنيسة الإسكندرية، بعنوان «أمة واحدة في مواجهة الفتنة»، استنكر فيها الاعتداء على المسيحيين المصريين، وساق الأدلة الشرعية التي تحرم هذا الاعتداء، وهذا موقف معروف لـ«الإخوان»، ولم يتهم عاقل أو منصف «الإخوان» يوما بأنهم مع مثل هذه الأعمال؛ بل هم ضدها دوما، ليس هذا موقفا جديدا على «الإخوان»، لكن المرشد ركز كثيرا في رسالته على أن الاعتداء يجب أن يوقظ العقول على المخطط الصهيوني لتقسيم مصر وبث الفرقة والفتنة فيها. وعليه، حسب رسالة المرشد بديع، فإنه يجب الانتباه إلى أن إسرائيل التي تقف وراء هذا العمل الشنيع، طبعا المرشد هنا يقدم تحليلا وليس دليلا جنائيا، لكنه تحليله المفضل.

الأهم في رسالة المرشد هو أنه انتبه إلى هذه «الهبّة» الشعبية المصرية التي ذعرت من هول المغزى الخطير لهذه الجريمة وعبرت عن مشاعر التضامن الوطني مع المسيحيين المصريين وتعزيز الروح الوطنية العابرة للتمايز الديني، وحفلت الفضائيات المصرية والصحف أيضا بتساؤلات كثيرة عن مصدر هذا التعصب الديني الذي جعل التوتر بين الأقباط والمسيحيين، ومظاهر تزمت ديني كثيرة و«طارئة» على المصريين، حديث المهتمين بمصر من أهلها ومحبيها، وطبيعي أن يتوجه التساؤل إلى الخطاب الديني السائد إعلاميا وشعبيا، ويبدو أن هذا الأمر أقلق المرشد بديع فسارع في رسالته إلى القول: «من أعظم الخطر أن تستدرج الأمة للوقوع في الفخ الذي نصبه مرتكبو الجريمة من خلال اتهام عموم المسلمين بارتكاب الجريمة، أو أن يلعب الكارهون للمشروع الإسلامي بالنار من خلال استثمار الأجواء المشحونة».

وترجمة لكلام المرشد فهو يعني بـ«المشروع الإسلامي» جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها «قائدة» هذا المشروع، وعليه؛ فأعداء هذا المشروع هم كل خصوم أو مخالفي جماعة «الإخوان» وكل التيارات الدينية المسيّسة.

هذا التحذير من إخضاع تيار الإسلام السياسي للنقد باعتباره «دينامو» الثقافة الدينية وموجه البوصلة الشعبية سياسيا، يذكر بتحذيرات مماثلة أطلقها رموز الصحوة في السعودية، وغيرها، ضد الصحافة وكتابها بعد اندلاع الإرهاب الأصولي في السعودية منذ تفجيرات مايو (أيار) 2003، وبنفس الحجة التي ذكرها المرشد بديع في رسالته الأخيرة هذه حين قال: «فإن ذلك (يقصد نقد المشروع الإسلامي) يستفز جماهير الأمة المعروفة بالتدين، ويعطي وقودا مغذيا للعنف والتطرف».

لكن الواقع، سواء في السعودية أو مصر، وكل بلدان العالم الإسلامي التي اكتوت بنار الإرهاب الديني، يقول إن نقد مقولات الخطاب الديني الثاوي في سلوك العنف هو السبيل الواجب سلوكه من أجل التشافي من مرض الإرهاب وقبله التعصب الديني المولد له. وأنه ليس صحيحا أن الإرهاب يتوقف أو حتى يهدأ إذا كف النقاد عن تناول خطاب التعصب الديني.

ما جرى بعد الإسكندرية، رد فعل طيب، لكن يجب ألا يكون عابرا وعاطفية، ويجب استثمار هذه المشاعر في طرح الأسئلة النقدية على طاولة المجتمع المصري برمته: لماذا صرنا هكذا؟ وهو سؤال طرحه كثير من المصريين.

هو ذات السؤال الذي طرحه كثير من السعوديين على أنفسهم، وما زالوا، باحثين عن جواب يشفي غليلهم لمعرفة لماذا انفجر الإرهاب الديني، وما زال قيحه يسيل على محيا البلاد؟ رغم ضراوة المواجهة الأمنية.

صحيح أنه سؤال مزعج، ومستفز، ولا أحد يحبذ أن يواجه سؤالا ثقيلا كهذا.

كل حكومات الدول الإسلامية حين يضربها الإرهاب الديني تحيل الأمر إلى سبب خارجي، فعل ذلك الرئيس الباكستاني السابق، برويز مشرف، وما زلت أذكر تصريحه، ومثله جاره في أفغانستان حميد كرزاي، وفعل ذلك اليمنيون والعراقيون، واليوم كثير من المصريين. وتظن من كثرة ما يحال إلى هذا السبب الخارجي أنهم إنما يعنون غزاة من سكان الفضاء الخارجي!

بعد هذا كله، غني عن القول أننا إنما نتحدث عن المكون الديني / السياسي، في معضلة الإرهاب، لا عن الأسباب الاقتصادية والسياسية والتنموية بشكل عام، فهذا حديث آخر، ومستحق. لكننا هنا في واد آخر.. واد غير ذي زرع!

[email protected]