فرصة السودان

TT

هل سأشهد في جوبا ما يأمل المرء أن يكون نهاية لأطول حرب أهلية في العالم استمرت طوال حياتي المهنية تقريبا. كانت زيارة إلى السودان عام 1964 هي التي قادتني إلى عالم الصحافة وعلمتني بعض الدروس المفيدة عن مشكلات الإعلام وأفريقيا التي كانت حديثة العهد بالاستقلال آنذاك. لقد كنت طالبا في الدراسات العليا لمدة عام بجامعة الخرطوم وتعرفت على طلبة من الجنوب أخبروني سرا بأعمال العنف التي تشهدها تلك المنطقة بداية من عام 1963 وأن تفاقمها إلى حد الثورة أمر حتمي كما زعموا. لم يغط أحد في الخارج ذلك العنف وهو ما دفعني إلى القيام برحلة لمدة عشرة أيام بالباخرة في النيل متجها إلى جوبا. وبعد قضاء عشرة أيام في تلك مدينة وفي المقاطعة الاستوائية بحثا عن اكتشاف المزيد قبل الذهاب برا إلى أوغندا. وكتبت مقالا عن الوضع وقد حاز إعجاب أحد معارفي من الدبلوماسيين في نيروبي وحثني على إرساله عن طريق البريد الجوي في تلك الأيام إلى صحيفة الـ«أوبزيرفر» وهي من كبرى الصحف البريطانية التي تصدر يوم الأحد.

وتلقيت ردا حماسيا من محرر الموضوعات الصحافية، الذي قال إنه سيتم نشر الجزء الأكبر من المقال الذي يتألف من ثلاثة آلاف كلمة قريبا، لكن لم يتم نشر أي كلمة منه. عند استفساري عن الأمر بعد عودتي إلى لندن بعدها بأسابيع، قيل لي إن كبير مراسلي الصحيفة في أفريقيا منعها من النشر. وكان لدى هذا الرجل علاقات قوية مع قادة الاستقلال الذين لم يصدقوا الأنباء السيئة التي أتيت بها من السودان.

في النهاية استعانت خدمة الأخبار بالصحيفة بجزء صغير من المقال، لكن التجربة جعلتني راغبا في أن أصبح صحافيا وأحذر كمحرر من السماح للأفكار المسبقة بأن تعوق الحصول على موضوع صحافي جيد.

وعند عودتي إلى جوبا عام 1971، لم تعد البواخر تعمل في النيل والطريق إلى أوغندا كان مغلقا، لكن أسفرت محادثات السلام عن صفقة جديدة للجنوب أثمرت بضع سنوات من السلام لكن قليلا من التقدم حتى اندلعت الحرب مرة أخرى في بداية الثمانينات.

أما على أرض الواقع، لم يكن مهما ما إذا كان النظام الحاكم في الخرطوم هو النظام العسكري للجنرال الفريق إبراهيم عبود عام 1964 أو حكومة ديمقراطية تولت السلطة بعد الإطاحة به أو نظام شبه اشتراكي أو نظام الجنرال جعفر النميري العسكري الإسلامي في السبعينات والثمانينات أو النظام الإسلامي لعمر حسن البشير الذي أعقبه.

لم تكن القضية هي مسلمون ضد الأقباط وفئات أخرى أو حتى متحدثو اللغة العربية ضد الآخرين، فالإسلاميون المتشددون قد تسببوا في تفاقم المشكلات لا خلقها. في عام 1964 لم تكن مسألة عدم تسامح الإسلاميين هي المشكلة، فقد كان يتم تخمير بيرة أبو جمال في شركة «بلو نايل بروري» على ضفاف النيل في الخرطوم وكان يتم تناول المشروب المحلي في حفلات العرس وكان من السهل التعرف على أماكن البغاء. لكن الهوة الثقافية كانت واضحة مثلما هي واضحة الآن سواء فيما يتعلق بالموسيقى أو الجنس ثم أضيف إلى ذلك إغراء النفط.

لذا سيكون الرئيس البشير جديرا بالتقدير والثناء إذا أوفى بوعده ومنح الجنوب حريته، وإلا فلن يكون مصدرا للأنباء السارة. لكن ليس هنالك من سبب يدعو إلى البحث عن المزيد من الانقسامات داخل الدول بعد الحقبة الاستعمارية، فالسودان حالة خاصة نتيجة اتساع الهوة بين الشمال والجنوب. لقد تم ضم الشمال والجنوب نتيجة الصراع بين بريطانيا وفرنسا على أراضي القارة الأفريقية وحاجة بريطانيا إلى منح الخديوي في مصر السيادة الاسمية على السودان. ومن المؤكد أن وجود الكثير من القبائل والأديان المختلفة في أفريقيا يجعل حكمها عملية في غاية الصعوبة، لكن لم تتجلَّ مثل هذه الاختلافات كما تجلت بوضوح في السودان ولم تؤد إلى هذه الحرب الطويلة وهذا البؤس كما حدث فيها.

تواجه إقامة دولة قابلة للعيش يعمها السلام في الجنوب الكثير من المشكلات، فالجنوب إقليم مضطرب بشكل مخيف، حيث يقع على الحدود مع شمال غربي أوغندا والكونغو ودارفور. كذلك الموارد البشرية التي توجد في الإقليم محدودة والصراعات القبلية كامنة. لكن هناك على أقل تقدير احتمال أن يتعافى السودان من عقود من الصراع وأن تنتظم حركة البواخر في النيل وأن يظل الطريق إلى أوغندا وإلى المناطق الأخرى الأكثر تقدما في شرق أفريقيا مفتوحا.

* خدمة «نيويورك تايمز»