الحب قبل كل شيء

TT

هناك قول شائع تردد من حنجرة الكثير من المطربين والمطربات، مادونا وأشلي سمبسن مثلا، وجرى على ألسنة وأقلام المفكرين من كونفوشيوس إلى جورج بوش، يقول: «الحب يجعل العالم يدور».

للقول حقا أساس علمي. فإذا كان أساس الحب هو الجاذبية، فنقول إن هذه البنت قد جذبتني، فدوران الأرض حول الشمس، والقمر حول الأرض ينطلق من قوة الجاذبية. نحن نحب القمر والقمر يحبنا فيدور حولنا. ومهما كانت الشمس حارة ومحرقة فنحن نحبها فندور حولها.

رغم كل ما يبدو من خيال شاعري في هذه الدردشة، فالحقيقة أن الكثير مما نقوم به لا شيء يحركه غير الحب. كنت أتصور أن الطعام والحصول على الطعام هو المحرك الأساسي لكل فاعلياتنا. كنت أعتقد أن الطفل الرضيع يتعلق بوالديه لأنهما المصدر الأول والأخير لتغذيته. ولكن العلماء أجروا تجربة مؤخرا على صغار القردة. جعلوا قردة أنثى تطعم قردا طفلا ولا تفعل أي شيء آخر له. وجعلوا قردة أخرى تقوم بملاعبته وتدليله والمسح على رأسه وظهره... ونحو ذلك من أفعال المحبة، ولكن من دون إطعامه. فعلوا ذلك لمدة كافية ثم عرّضوا القرد الطفل لخطر. وإذا به يهرع للجوء إلى القردة التي كانت تداعبه وليس إلى القردة التي كانت تطعمه. وهو شيء ينقض كل ما تقوله الماركسية.

الحقيقة أننا نجد شيئا من ذلك في دنيا السياسة أيضا. فمثلا، إن الكثير منا يشتمون أميركا، على الرغم من أنها هي التي تزودهم بالقمح، ويتعلقون بالوطنجية والإسلامجية الذين يجيعونهم ويبعدون السياح، (مصدر رزقهم)، عنهم ولكنهم يدغدغون مشاعرهم. يمكنني أن أقول إننا تصرفنا بنفس السلوك في العراق في الخمسينات؛ كانت قلوبنا مشدودة بجمال عبد الناصر الذي كان يدغدغ مشاعرنا، وثرنا على الحكم الملكي الذي كان يوفر لنا طعامنا.

حصلت تجربة عفوية في هذا السياق جرت في رومانيا، التي أصبحت تضج بصغار الأيتام والأطفال الذين تخلى عنهم أهلهم. قامت إحدى المؤسسات الخيرية البريطانية بفتح ميتم في بوخارست. لم يكن بيد المربيات غير وقت قليل جدا لإطعام هذه الجموع الغفيرة من الأطفال. هكذا دأبت إحداهن على وضع الطعام بسرعة في حلوقهم والمضي في طريقها إلى الردهات الأخرى. بيد أنها دأبت، وهي تخرج من الردهة، على أن تضع يدها بحنان على رأس الطفل الأخير في الردهة وتمسح على شعره قليلا قبل أن تغلق الباب وتنصرف. لوحظ بعد سنوات قليلة أن ذلك الطفل بالذات هو الوحيد من كل أطفال الردهة الذي أبلى بلاء حسنا في دروسه وسلوكه في المدرسة.

كان الدرس واضحا من هذه التجربة العفوية، وهي أن ذلك القسط الصغير من المحبة الذي حظي به ذلك الطفل قد شحذ ذكاءه وعلمه محبة الآخرين، وبالتالي احترام الآخرين.

الحب هو الذي يدير العالم. والمؤسف أن هذا هو العنصر المفقود في حياتنا العامة وعلاقاتنا الاجتماعية. نعتبر الوقوع فيه إثما وجرما نغسله بالخنجر.