السودان يتقدم نحو مستقبله

TT

سينهي الاستفتاء الجاري حاليا في جنوب السودان فترة طويلة من الصراع الدموي بالبلاد.

خلال الأعوام الـ50 الأولى من استقلاله، تورط السودان في حرب مع نفسه طوال 38 عاما. ولم يكن من الممكن استمرار هذا الوضع إلى الأبد. وعاجلا أم آجلا، كان سيتعين على السودانيين الإجابة على تساؤل: ما الذي ينبغي أن يفعلوه كي يحظوا بالسلام؟

على امتداد سنوات الحرب، كانت الإجابة واضحة، وقد قدمتها حركة التمرد الجنوبية التي اندلعت عام 1955، مما أشعل شرارة الحرب الأهلية الأولى. يذكر أنه خلال الحقبة الاستعمارية، حكمت بريطانيا الشمال والجنوب السودانيين باعتبارهما كيانين مختلفين. وأسفرت السياسات التي انتهجتها عن تطور نسبي في الشمال، بينما غابت التنمية على نحو فج عن الجنوب.

وعليه، خشي الجنوب من أن يؤدي اندماجه في سودان موحد إلى خضوعه لهيمنة الشمال. لذلك، حمل السلاح مطالبا باستقلاله الذاتي وممارسة شعب جنوب السودان حق تقرير المصير من دون أن يفضي ذلك إلى الاستقلال الكامل.

وقد سعت حركة التمرد لتوضيح نقطة بسيطة مفادها أنه كي يقوم السودان كدولة موحدة، يتعين عليه بناء نظام دستوري واقتصاد سياسي يحترم تنوع الكيان السوداني. إلا أن الشمال اختار رفض هذا الطلب وقمع التمرد بقوة السلاح.

ومثلما كان الحال مع بريطانيا الاستعمارية، عمدت النخبة الحاكمة خلال حقبة ما بعد الاستعمار في شمال السودان إلى تنفيذ سياسات تمييزية ضد الجنوب واستخدام القوة في إطالة أمد التفاوت الصارخ بين الشمال والجنوب.

وسعت الاستراتيجية التي انتهجها الشمال إلى الإبقاء على وحدة السودان، لكن تحت سيطرة أقلية شمالية مهيمنة. وكان من شأن ذلك إقناع السودانيين الجنوبيين بالتحرك لما هو أبعد من المطالب المطروحة عام 1955 والقتال من أجل الاستقلال.

وقد اتسم هذا الموقف بقوة كبيرة جعلته يتفوق على وجهة النظر البديلة التي طرحها الزعيم البارز للحرب الثانية بين الشمال والجنوب، الراحل جون غرانغ، الذي أشار إلى أن هدف النضال الجنوبي المسلح ينبغي أن يكون إقامة سودان جديد، بحيث يكون سودانا موحدا ديمقراطيا يجري حكمه طبقا لنظام دستوري واقتصاد سياسي يحترم التنوع، وهو ما سبق أن طالب به المتمردون السودانيون عام 1955. إلا أنه بموت غرانغ، ماتت هذه الرؤية، وذلك عندما لقي حتفه في حادث تحطم مروحية عام 2005 في وقت مبكر من عمر اتفاقية السلام الشاملة التي تفاوض بشأنها.

مع تلاشي هذه الرؤية، يبدو من المحتوم أن الاستفتاء الذي يجري بجنوب السودان، وبدأ أعماله الأحد، سيؤدي إلى تقسيم السودان لدولتين، الأمر الذي يبدأ سريانه في 9 يوليو (تموز) المقبل.

ويتهيأ السودان الآن لهذا الأمر. من جانبه، زار الرئيس عمر البشير جوبا، عاصمة جنوب السودان، قبل عقد الاستفتاء بخمسة أيام وأكد للجنوبيين أنه سيشاركهم احتفالاتهم حال اختيارهم الانفصال. وصرح لاحقا أن الشمال سيساعد الجنوب على النهوض على قدميه، الأمر الذي اعتبره في خدمة مصالح الشمال.

لبعض الوقت الآن، شارك القادة السودانيون في مفاوضات للتوصل لاتفاق حول العديد من ترتيبات ما بعد الاستفتاء التي من شأنها تحديد العلاقات بين الدولتين المحتملتين.

وقد اتفقوا على أن يعمل الشمال والجنوب معا لإقامة دولتين قادرتين على البقاء، تعتمدان على قبول استقلالهما، وبالتالي الحاجة لبناء تعاون بينهما يعود بالنفع على الجانبين، موجه إلى تعزيز تكاملهما ككيانين يقفان على قدم المساواة.

ويجري التفاوض بشأن اتفاقات أخرى على صلة بقضايا مهمة مثل المواطنة والديون الوطنية والتشارك في عائدات النفط وترتيبات العملة والعلاقات بين المجموعات السكانية المختلفة على طول الحدود الشمالية - الجنوبية. وستحدد هذه المفاوضات أيضا المؤسسات التي ينبغي إنشاؤها لإدارة العلاقات بين الدولتين حال انفصال الجنوب.

في الوقت ذاته، ستستمر المفاوضات بهدف تسوية القضايا العالقة المرتبطة بأبيي وترسيم الحدود الشمالية - الجنوبية.

ورغم إصرار بعض المعلقين على طرح رؤية ترى أن السودان ربما ينزلق مجددا لهوة الحرب، فإن الموقف الذي يواجه الشمال والجنوب ومصالحهما الجوهرية تفرض عليهما الحفاظ على السلام الذي بنته اتفاقية السلام الشاملة.

أما الاحتمالية المثيرة في الأمر، فهي أن يساعد السودان، نظرا لتاريخه المؤلم، في تعليم باقي أرجاء أفريقيا كيفية التعامل مع تحدي التنوع الذي أثار الكثير من الصراعات داخل القارة، بما في ذلك ما تعانيه حاليا ساحل العاج وشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.

وبذلك، ستحتفل أفريقيا بالتسوية السلمية للصراع طويل الأمد في السودان وتراكم خبرة عملية جديدة ستخدم القارة في إطار نضالها لبناء مجتمعات سلمية وديمقراطية تقوم على وحدة التنوع.

* الرئيس السابق لجنوب أفريقيا ورئيس اللجنة التنفيذية رفيعة المستوى المعنية بالسودان التابعة للاتحاد الأفريقي، التي تضم أيضا الرئيسين السابقين عبد السلام أبو بكر من نيجيريا وبيير بيويا من بوروندي.

* خدمة «نيويورك تايمز»