كم من «سودان» في العالم العربي!

TT

الإقبال الواسع على الاقتراع على استفتاء انفصال جنوب السودان عن شماله، وأجواء الفرح والمرح المرافقة لعملياته، دليلان كافيان على فشل تجربة وحدة الكيان السوداني بعد 55 عاما من استقلاله عن الحكم البريطاني.

ربما تبرر الخلفية التاريخية لعلاقة شمال السودان بجنوبه أجواء البهجة التي سادت الجنوب لمجرد أن توفرت لأبنائه فرصة «الخلاص» من تحكم الدولة المركزية بشؤونهم، وإن كان المستقبل القريب لا يزال مثقلا بالإشكالات العالقة بين شطري السودان، بدءا بترسيم الحدود النهائية بينهما، وانتهاء بالاتفاق على صيغة واحدة لتقاسم عائدات النفط.

مع ذلك، يعتبر الاستفتاء السوداني، بالنسبة للعالم العربي، أول اعتراف «رسمي» من عاصمة عربية بأن ثمن المحافظة على وحدة الكيانات الموروثة عن الاستعمار الأوروبي باهظ ومكلف، وغير مجد في نهاية المطاف.

على هذا الصعيد، تسجل للخرطوم سابقة استثنائية في العالم العربي، وإن كانت سابقة مفجعة إذا ما تذكرنا أن «فرحة» الخمسينات من القرن الماضي كانت في تحقيق وحدة وادي النيل بأكمله.. فأصبحت في مطلع القرن الحادي والعشرين في انفصال جنوب السودان عن شماله.

ولكن، ورغم أن استفتاء السودان حق بديهي من حقوق تقرير المصير، يصعب التصور بأن انفصال الجنوب عن الشمال سيكون سلسا، كما طلاق تشيكيا «المخملي» عن سلوفاكيا عام 1992، وبهجة الجنوبيين العارمة باستفتائهم لن تغيب عن الأذهان أن سجل حركات التحرير الأفريقية، بعد تسلمها الحكم من الدول المستعمرة، غالبا ما كان أردأ من سجل عهد الاستعمار.

كل حركات التحرر الأفريقية فشلت في التحول إلى أنظمة ديمقراطية بعد الاستقلال، وفي تحقيق إنجازات اقتصادية لشعوبها.. وسجل «الحركة الشعبية لتحرير السودان» على مدى السنوات الخمس الأخيرة، التي مارست فيها شكلا من أشكال الاستقلال النسبي عن الخرطوم، لم يختلف كثيرا عن سجل نظام الشمال.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق قد يكون: كم من «سودان» آخر في العالم العربي ينتظر «فرصة سودنة»! أي مناسبة سانحة لإعادة رسم كيانه الجغرافي وفق تطلعات عشائره العرقية لاستقلال ذاتي، وتوق قبائله المذهبية للانعتاق من هيمنة المذاهب الأخرى!!

في عهد السودانين والفلسطينين والصومالين والثلاثة عراقات والثمانية عشر لبنانا (عدد مذاهبه المعترف بها رسميا) لم يبق للقوميين العرب سوى البكاء على أطلال الوحدة العربية.

عهد «الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة» انقضى - ربما إلى غير رجعة - ليس لأن مفهوم الوحدة مناقض للمصلحة العربية، بل لأن «الرسالة الخالدة» لدعاتها فشلت في التأقلم مع الواقع التعددي للمجتمع العربي، وقصرت عن طرح صيغة نظام وحدوي يحفظ التنوع ضمن الوحدة الاجتماعية للدولة الواحدة، ويحترم الحريات الفردية، والوسائل المشروعة للتعبير عنها، فأخفقت في نقل طروحاتها من إطار الرومانسية القومية إلى نطاق المشروع العملي الاقتصادي والاستراتيجي.

مؤسف أن دعاة الوحدة العربية لم يطرحوا صيغا حضارية يسهل تحقيقها في القرن العشرين – سواء كانت فيدرالية أو كونفدرالية - فبقيت دعوة رومانسية في الظاهر، ومركزية – كي لا نقول ديكتاتورية - في الباطن، بحيث بات البديل المتاح لها أنظمة التشرذم القبلي – كما في السودان والصومال - والمذهبي كما في العراق، وربما لبنان لاحقا، والحزبي كما في فلسطين.. ما يوحي بأن العرب انتقلوا، في القرن الحادي والعشرين، «من تحت الدلف لتحت المزراب»، على حد تعبير المثل الشعبي اللبناني.