الأزمة اللبنانية والاندراج في أزمات المنطقة

TT

ما انتظر أحد من الجهات التي تتعامل مع الأزمة اللبنانية تعاملا غير مباشر، أن يعلن الطرفان المباشران عن انسداد الأفق أمام الحل. ففي ليل يوم الاثنين (10/1/2011) زار موفدان لحزب الله وحركة أمل سورية، حيث أبلغوا أن مطالبهم في سياق التفاهم السعودي - السوري (الذي يبدو أنه جرى التوصل إليه بالأحرف الأولى في شهر سبتمبر «أيلول» الماضي) غير قابلة للتنفيذ (والسفير السعودي لدى لبنان يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «س - س» ما كان موجودا!). ثم قبل ظهر الثلاثاء عرفنا الشيء نفسه من نيويورك، حين قال الرئيس الحريري مخاطبا الطرف الآخر: إنكم تنعون التزاماتكم! وقد انهمك المعلقون الصحافيون والسياسيون اللبنانيون في تفسير هذا التعرقل، وفي وضع السيناريوهات المحتملة لتطور الموقف في لبنان. بيد أن التوقعات المختلفة والتخمينات ما استغرقت غير بضع ساعات. لأن أطراف جبهة الثامن من آذار زاروا رئيس الجمهورية بعد ظهر الثلاثاء وطلبوا منه بإلحاح عقد جلسة يوم الأربعاء لمجلس الوزراء للنظر في «كيفية مواجهة المحكمة»، هكذا مرة واحدة. ومن الناحية الدستورية؛ فإن رئيس مجلس الوزراء هو الذي يدعو المجلس للانعقاد، ويتشاور مع رئيس الجمهورية بشأن جدول الأعمال. ولأن رئيس مجلس الوزراء سيقابل الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم الأربعاء؛ فالمفهوم أنه لن يكون في لبنان، ولذا يتعذر انعقاد المجلس. وقد قال الجنرال عون وآخرون إنه إذا لم يستجب الرئيس الحريري لدعوتهم فإنهم سيتخذون «الإجراء المناسب». وقد أشاعوا ليلا أن ذلك الإجراء المتوعد به ربما يكون الاستقالة، لتحويل الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال، إضافة إلى أمور أخرى ما جرى الإفصاح عنها!

لماذا تفككت عرى التفاهم أو الاتفاق؟ كان الرئيس سعد الحريري قد صرح لجريدة «الحياة» قبل سفره أن التفاهم ناجز، لكن الطرف الآخر ما وفى بتعهداته. وقد قالت جهات من «8 آذار» إن الأسباب تعود للتوقيت فيما يتصل بالقرار الاتهامي، والمحكمة. لكن الرئيس بشار الأسد قال لزواره يوم الأحد (في 9/1/2011) إن الاتفاق لا يتعرض لا للمحكمة ولا للقرار الاتهامي. وهكذا فالمفهوم أن هذين الأمرين أو أحدهما كانا مطلبا للحزب وحلفائه ومن خارج التفاهم أو ليسا في صلب بنوده؛ وقد حاولت سورية إدخالهما أو أحدهما خدمة لحلفائها، لكن ذلك جرى رفضه، فجرى الإعلان عن انسداد الأفق؛ بمعنى رفض الحزب وحلفائه السير فيما جرى التوافق عليه، إلا بشرط التبرئة المسبقة.

إن هذه التفاصيل مهمة، بيد أن أهميتها تتضح أكثر إذا جرى توسيع المشهد والمنظور. فقد قال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية قبل أسابيع قليلة إن المحكمة الدولية مؤامرة وعبث وباطل. وكان السيد نصر الله قد دأب على تكرار ذلك عبر الشهور الستة الماضية. ويدخل ذلك في جهد مستمر للحزب وحلفائه على مدى السنوات الأربع الماضية لإبطال المحكمة. فمع كل خطوة باتجاه المحكمة كان يحدث اضطراب سياسي أو أمني بلبنان يقوده الحزب وحلفاؤه. والمحكمة الآن تتقدم باتجاه القرار الاتهامي، ومسار المحاكمات المعروف لمن يتهمهم القرار. وقد عشنا طوال الشهور الستة الماضية، وعلى وقع اعتقاد حزب الله أن المحكمة وقرارها أو قراراتها؛ كل ذلك يمكن التلاعب فيه تأخيرا أو تغييرا أو إلغاء. ثم اعتقدوا أن ذلك ممكن عن طريق الرفع من شأن «الشهود» الذين اعتمدت عليهم المحكمة ثم ظهر أن شهاداتهم مزورة. وهذا مغزى الإصرار على محاكمتهم في سورية أو لبنان، ليتبين زيف أدلة الاتهام. ثم تبين للحزب وحلفائه أن شهادات هؤلاء (إذا كانوا موجودين)؛ فإن المحكمة ما اعتمدتهم، ولن يكون لهم تأثير في قراراتها. ولذلك فقد انتقلوا إلى مسألة الاتصالات، التي قيل إنها اعتمدت أدلة في التحقيق والمحكمة، فذكروا أن إسرائيل اخترقتها من طريق عملائها، ومن طريق التكنولوجيا المتطورة. ثم تبين مرة أخرى أن المحكمة لا تعتمد في أدلتها عليها. ولذا فقد تحولوا كلية إلى الرئيس سعد الحريري باعتباره ولي الدم، ورئيس الحكومة، ويمكن عن طريق التفاهم معه التخلص من الاتهام والمحكمة، ولذا فقد ساروا في عملية التفاهم أو ما سمي بالمبادرة السعودية - السورية، التي تضمنت فيما يبدو بنودا مغرية لكل لبناني، وليس للحريري فقط من مثل إعادة البلاد والحكومة إلى الأوضاع الطبيعية، وإيقاظ الطائف واستكماله، والاستغناء عن استعمال السلاح بالداخل أو التهديد به (كانوا قد وعدوا بذلك في اتفاق الدوحة ثم استعملوه مرتين على الأقل)؛ لكن الهدف كان التوصل إلى الإعلان عن الخروج من الالتزامات تجاه المحكمة من جانب الحكومة، وربما قبل صدور القرار الاتهامي. إنما عندما اقتنعوا أن ذلك لن يحصل بالصيغة التي يرغبونها على الأقل؛ أعلنوا عن الخروج من التفاهم، وطلبوا مباشرة عقد اجتماع لمجلس الوزراء لمواجهة المحكمة قبل صدور القرار الاتهامي؛ وبخاصة أن هذا القرار اقترب صدوره، ونفد وقت التلبث والانتظار.

ولنمض خطوة أخرى في توسيع المشهد. فمنذ أسبوعين أو ثلاثة عاد إطلاق القذائف من غزة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية. وعاد الإسرائيليون يهددون باجتياح غزة أو قصفها قصفا شديدا كما حصل في أواخر عام 2008. وفي غزة عدة تنظيمات موالية لإيران، وليس حماس فقط. وقد حذر المصريون الإسرائيليين من انتهاج رد فعل عنيف، حتى لا يعود إلى المنطقة مشهد أواخر عام 2008، وتعود المنطقة إلى أجواء الحرب التي تريدها إيران (وتريدها إسرائيل والمستوطنون أيضا!). ولذا ليس بعيدا عن التفكير الذهاب إلى أن إيران (على مشارف مفاوضاتها في اسطنبول مع المجتمع الدولي) تريد تسخين الوضع، لإيضاح قوة أوراقها في فلسطين ولبنان، كما أثبتت قوة أوراقها في العراق، وحصلت على ما تريد. ولا ننسى أن الولايات المتحدة تريد إرسال سفير إلى سورية خلال أسبوع، وهذا الأمر لا يريح إيران. ولذا فإن سورية إذا كانت موضع مراقبة واختبار من جانب المملكة العربية السعودية بعدما حدث بالعراق؛ فإنها أيضا موضع مراقبة واختبار من إيران في تطور علاقاتها بالولايات المتحدة من جهة، وإلى أي جهة تنحاز في لبنان: هل تبقى مع حلفائها الذين وقفت معهم ووقفوا معها منذ عام 2004، أم تعتبر نفسها وسيطا محايدا لتسهيل الحل، ورعاية الاستقرار لسائر اللبنانيين؟!

لقد قال السفير السعودي لدى لبنان إنه لم تكن هناك مبادرة من جانب «س - س»، وإن الحل بيد اللبنانيين. بينما دعا أردوغان وقطر اللبنانيين للتمسك بالاستقرار، والتمسك باتفاق الدوحة، وعدم الاستقالة أو التعطيل. أما سورية فما أخفت (بعد الانسداد الأخير) الجانب الذي تنحاز إليه؛ إذ ذهب حليفها النائب سليمان فرنجية مع الآخرين إلى رئيس الجمهورية لمطالبته بعقد مجلس الوزراء لمواجهة المحكمة. وهذا في الوقت الذي كان فيه الأميركيون والفرنسيون والأوروبيون الآخرون يكررون التمسك بالمحكمة ومسارها واستحالة إلغائها أو التأثير عليها.

وإذا كنا على مبعدة أسبوع أو عشرة أيام من المحادثات الإيرانية / الدولية باسطنبول؛ فنحن أيضا على مبعدة أسبوع من مؤتمر القمة الاقتصادية العربية، التي لن تبحث في الاقتصاد وحسب؛ بل تبحث أيضا في الأوضاع العربية، وفي ذهاب الفلسطينيين والعرب إلى مجلس الأمن من أجل وقف الاستيطان، وتجديد التمسك بالدولة المستقلة في حدود عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية.

هل للمرحلة الجديدة أو للتطور الأخير في الأزمة بلبنان علاقة بذلك كله، أي بالصراع على فلسطين، والتجاذب بين الولايات المتحدة وإيران؟ قد يكون ذلك وقد لا يكون. لكن الإيرانيين عودونا على أن يعتبروا كل اضطراب يثور في بلد عربي، ويكون لهم إصبع فيه، أنه مصارعة مع الولايات المتحدة، أو انتصار عليها وعلى إسرائيل. إن لم تصدقوا ذلك فتأملوا معي تصريح صالحي وزير الخارجية الإيرانية الجديد الذي قال فيه إن الأولوية عنده للعلاقات الوثيقة مع تركيا ومع المملكة العربية السعودية!