«وسطية» مصرنا المحروسة

TT

..وما إن سمعت بخبر الحادث المروع حتى أسرعت بسحب الكهرباء من المذياع المرئي لتحصين نفسي ضد هجمات «التوك شو»، مطحنة الرغي في لغتنا الصحيحة، التي يبثها المذكور بكل قنواته وفضائياته، متوقعة ما حدث بالفعل وهو؛ خروج كل ربابة بموالها يعزف عازفها ويغني منشدها الاجترارات البدهية بأصنافها المتعددة التي، في عمري هذا الطويل، خبرتها وحفظتها أذناي، حتى الملل، مع مرور حقب الزمان وعقود السنين. لا تعديل في المنطق، ولا تصويبات للأخطاء، ولا تصحيحات للزور والبهتان، ولا اهتمام يرعى جراح البلاد والعباد: لا شفاء من علة ومرض، الجديد فحسب هو اتساع رقعة منصات انطلاق متفجرات الكلام الخارجة من حاويات الأذى، التي كانت محدودة ومحصورة بقصور الإمكانات في عقود الأربعينات حتى التسعينات من القرن العشرين إلى أن فتحت الألفية الثالثة مغاليق الصناديق، ما تم تسميته «ثورة الاتصالات»، وطارت وطاويطها من محابسها لتلبس في وجوهنا صباح مساء توسوس وتصوصو وتصفر وتنهش وتمصمص ولا مجال لطردها ولو بالطبل البلدي.

سألني هذا، فكتمت السهم في كبدي وكيف أنهى عن أمر وأقترف مثله؟ ما حدث ليس فتنة: إنه تصنيع فتنة، وكل الاحتمالات واردة، ننتظر نتائج التحقيقات، والرغي الكثير لا فائدة فيه، ألم يقلها الشاعر أحمد شوقي، وكان ذلك قبل وفاته 1932:

وفيم يكيد بعضكمو لبعض

وتبدون العداوة والخصاما؟

***

وأين ذهبتمو بالحق لِمَ

ركبتم في قضيته الظلاما؟

شببتم بينكم في القُطْر نارا

على محتلّه كانت سلاما

شهيد الحق قم تره يتيما

بأرض ضُيّعت فيها اليتامى

وساءلتني تلك، ناقلة في تساؤلها روح «الإسلاموفوبيا» لأتحسس ما تصورته بطحة في الرأس، عن طرح طرحه مسؤول عن «الوسطية» و«الدولة المدنية»، كأن مصر تشكو التزمت، بكل مهرجاناتها الفنية التي تلبس فيها بعض فناناتها «من غير هدوم»، حتى يتوجب علينا النصح بـ«الوسطية»! وأين هي هذه الدولة الدينية الوهمية التي ما فتئ بعض الزاعمين بأنها تناطح الدولة المدنية القائمة بالفعل منذ زمن ولا ينقصها قول مغن: «عمّاله أدوّر عليك أتاريك هنا جنبي»!

«صححني» متشائم قائلا: أين هي الدولة أصلا؟

أجبته غاضبة: العراق كان يصيح: ماكو ميْ، ماكو كهرباء، ماكو دولة! أما نحن فلا يزال لدينا ماء، ولو ملوّث، ولدينا كهرباء ولو باهظة الثمن، وهذا دليل على أن لدينا دولة.

كان لا بد أن يداهمني سعال «المُستجدّة»، وهو ما تم إطلاقه على إنفلونزا 2011، فانطلقت إلى شريط أغنيات لعبد الوهاب أتفاكه مع مواله: «مسكين وحالي عدم» حتى «النيل نجاشي حليوه أسمر» إلى أن وصلت مع صوته الشجي إلى كلمات الشاعر شوقي العابثة: «جات الفلوكة والملاّح ونزلنا وركبنا، حمامة بيضا بفرد جناح، تودينا وتجيبنا، ودارت الألحان والراح وسمعنا، وسمعنا وشربنا......هيلا هوب هيلا... صلّح لي قلوعك ياريّس.......»!

هذا المجون مع الغرام والشراب الذي ساقه شوقي وصفا إلى أسماعنا في بحبوحة الدولة المدنية، على مدى ما يقرب من قرن، لم يمنعه من التضرع إلى الله سبحانه بالدعاء:

وقى الأرض شر مقاديره

لطيف السماء ورحمانها

ونجى الكنانة من فتنة

تهددت النيل نيرانها

فهل هناك من دلائل لـ«وسطية» مصرنا المحروسة أكثر من ذلك؟