متين شنتورك كما يرى الدنيا وتراه

TT

أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة المكفوفين بعدما ولد فاقدا بصره، والتحق بالمعهد الموسيقي لثانوية إسطنبول التقنية، ثم بجامعتها، فتخرج منها مغنيا من الطراز الأول وعازفا على العود ينافس المبدعين. له حتى الآن أكثر من 15 ألبوما غنائيا، وشارك في تقديم عشرات البرامج الفنية ومئات الحفلات. من أهم كوادر جمعيات المعوقين في تركيا وأنشط رجالاتها الذين لا تفارقهم الابتسامة وروح النكتة.

أجمع الكثير من الأتراك على أنه خير مترجم لمعنى التعلق بالحياة بعدما تمسك بأصابع الطبيب الذي كان يعاين عينيه، ولم يتركها حتى الآن. كان في العاشرة من العمر عندما فاجأ مدرسيه وهو يشغل محرك «باص» المدرسة ويحاول قيادته لينال العقاب المناسب وقتها. لكنه لم يستسلم ويتخلى بمثل هذه السهولة عن تحقيق الحلم في قيادة السيارات وتحويل ذلك من مجرد هواية إلى محطم للرقم القياسي العالمي في سرعة السيارات للمكفوفين، حيث دخل كتاب «غينيس» للأرقام القياسية في شهر أبريل (نيسان) الماضي بعد تحطيمه الرقم العالمي السابق، وهو يقود سيارة «فيراري» بسرعة 300 كلم في الساعة، على مدرج طيران مدينة أروفا في جنوب شرقي تركيا. ولما سأله أحد الإعلاميين، الذي كان يتابع الحدث: هل قاد فعلا هذه السيارة وبمثل هذه السرعة؟ قال مداعبا: وهل أنت «أعمى»، ألا ترى ذلك؟ حسنا دعني أوصلك إلى مكان عملك في طريقي إلى المنزل لتتأكد بنفسك أنني فعلت ذلك. هو يردد أنه استعد لهذا الحدث أكثر من عامين، وأنه يفعل ذلك باسم 10 ملايين من المعوقين في تركيا. «أردت فقط أن أقول للملايين من المعوقين الأتراك أن ينطلقوا في أرض الله الواسعة، وألا تحزن الأمهات وتخجلن لأن أبناءهن على هذه الحالة».

حاول أحدهم أن يسخر منه سائلا: كيف تسير حياته الزوجية من سيدة لم يرها ولو مرة واحدة؟ فاستعان بسقراط لشرح حالته: إذا كان زواجك يسير على ما يرام، فأنت سعيد وإذا ما تعثر فأنت فيلسوف، أنا سعيد لكن الكثير من أصدقائي فلاسفة. أنا لا أفرق بين البشر في هذه المسألة، أحدنا يتزوج وأنت تراه إنسانا عاديا، لكن العاهة قد تكون في عقله وطريقة تفكيره، قلبه هو المعاق، ربما كما يقول.

منذ مطلع الشهر الماضي يقدم نشرة الأخبار الرئيسية في إحدى القنوات التركية الخاصة تحت عنوان «تركيا والعالم كما أراهما». ربما هي التجربة الأولى في العالم من هذا النوع، حيث يتحرك معتمدا على ذاكرته وشجاعته وسمعه وقراءته للوحات التي يعدها فريق عمل متخصص يساعده تقنيا وفنيا على إعداد النشرة ونقل عشرات الضيوف من السياسيين والأكاديميين والخبراء ليناقشهم في تفاصيل المسائل السياسية الدولية والحياة اليومية التركية بمختلف جوانبها.

قبل أيام علق وزير الدولة التركي المكلف بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي، أغمان باغش، على صدره وسام تعيينه سفيرا فخريا لتمثيل تركيا لدى الدول الأوروبية، وأعطاه الصلاحيات الواسعة لمحاورة المعوقين الأوروبيين وكسب دعمهم في موضوع العضوية التركية في المجموعة الأوروبية، وقيادة تنظيم مؤتمر المعوقين الدولي في إسطنبول، الذي يعقد بعد 3 أشهر. مازح الوزير التركي خلال الاحتفال الذي كان يقول إن الكثير من العواصم الأوروبية لا تريد أن ترى ما أنجزته تركيا في هذا الاتجاه في السنوات الأخيرة، فقال: أنت على حق، فحتى أنا أرى كل ذلك.

كان يجامل أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، الذي قصده لطلب دعمه في المسألة ذاتها بقوله: إن سرعة حركة السياسة الخارجية التركية تفوق سرعة الرقم القياسي، الذي حطمه، فقال له الوزير: إن نشاطه وحراكه الدائم هو الآخر له علاقة مباشرة ببعد «الرؤية» التي يتمتع بها، فرد ممازحا: أنا أرى ما يعجبني فقط، مثلا هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها هذا العدد من الإعلاميين وعدسات الكاميرا حولنا.

ما ينتظره ويراهن عليه في هذه الأيام، هو دعوة من رجب طيب أردوغان، كما فهمنا، لدخول المعترك السياسي والالتحاق بالبرلمان التركي الجديد بعد تجربة غير ناجحة خاضها عام 2007 وحلمه الجديد هنا بأن تكون للمعوقين في تركيا وزارتهم الخاصة بتولي شؤونهم ومعالجة مشكلاتهم.

متين شنتورك هو أحد القلائل بين الملايين من المعوقين، الذين لم يحولوا سواد المشهد إلى كآبة، ولم يتراجعوا أمام انسداد الأبواب وبقاء الحلم في الجانب الآخر، ولم يختاروا الانزواء والقطيعة مع الحياة، على الرغم من ندرة الفرص. واحد من الذين «نظروا» دائما إلى النصف الممتلئ من الكوب على الرغم من قتامة الصورة، فحققوا ما يريدون.