فضيلة الإنصات المنسية بالعمل!

TT

عندما أعطي اختبار «هل أنت منصت جيد؟» للمشاركين بدوراتي في فن الإنصات، لتقييم مستواهم، يحصل نحو 95 في المائة منهم على تقدير متوسط ومقبول! والمفارقة هي أنني ما إن أسأل هؤلاء (وجلهم من الموظفين) قبيل الاختبار، من منكم يعتقد أنه منصت جيد؟ حتى ترتفع الأيادي في مختلف أنحاء القاعة، وبعد إعلان النتيجة تأتي الصدمة.

ولا ألوم الموظفين في العالم العربي إذا ما كانوا يعانون من مشكلة في الإنصات، لأنهم باختصار شديد لم يسمعوا عن مناهج تدرسنا فن الإنصات إلى الآخرين، ولم ينشأ بعضهم في بيئة تمارس الإصغاء، بل ولم يدركوا مدى حجم الأخطاء المادية التي يمكن أن نرتكبها عندما لا نمارس مهارة الإنصات في العمل. على سبيل المثال، لو أن موظفا لم يطبق التعليمات التي يسمعها من مسؤوله بالشكل الصحيح فطبع رزمة أوراق بالخطأ أو أهدر وقته (المحسوب ماديا) على أمر لم يطلب منه، وكانت قيمة هذا الخطأ 10 دولارات في أسبوع واحد، وكان لدينا 150 ألف موظف في حي من الأحياء التجارية، فإن القيمة الإجمالية لخطأ عدم الإنصات هي 1.5 مليون دولار في الأسبوع! هكذا يمكن أن نتخيل التداعيات «المادية» للاستهانة بالإنصات، ولكننا لا نحسب أخطاءنا في العالم العربي بهذه الطريقة.

والمفارقة أن إحدى الدراسات المهمة أظهرت أن المديرين يرون أن أهم خصلتين يجب أن يتحلى بهما الموظفون هما: «حسن اتباع التعليمات»، و«مهارة الإنصات». وجاء في دراسة أخرى للجمعية الوطنية للكليات وأرباب المنازل في أميركا أن أرباب العمل يبحثون عن المهارات الشخصية ومهارات التواصل Communication قبل البحث عن المهارات الفنية Technical للموظفين بحسب ما نشرته مجلة «لسننغ بوست».

ورغم أهمية الإنصات بالنسبة للمديرين، فإنه عندما سئل طلبة الماجستير في إدارة الأعمال MBA في دراسة أكاديمية عن توقعاتهم بشأن المهارات المطلوبة للتعامل مع التحديات التي تواجه الموظفين، وضع الطلبة الإنصات في المرتبة الحادية عشرة في قائمة من 18 موضوعا مقترحا!

ولكن يبدو أن كتب الإدارة الحديثة قد تنبهت إلى أهمية أن يتعلم الطلبة مهارات الإنصات فصارت تخصص فصلا كاملا عن المهارات الشخصية والتواصل، وفي مقدمتها فن الإنصات، وهو ما لم يكن موجودا في الكتب الأكاديمية الإدارية التي درسناها سابقا.

والسبب باختصار شديد يعود إلى أن الإنصات صار خصلة مهمة جدا للمدير المؤثر والقائد الفعال، ويساعدنا أيضا على اكتساب معلومات جديدة، وتصحيح مفاهيم خاطئة، وفهم مراد المسؤولين وتعليماتهم، وحاجات ورغبات العملاء، لا سيما أن حسن الإصغاء يوثق أواصر المودة بين الموظفين والإدارة العليا، فكم من إدارة ضربت بحاجات الموظفين ورغباتهم عرض الحائط فلم تزدهم إلا حنقا وحقدا عليها، الأمر الذي ولد أجواء غير صحيحة، ربما تسببت في تسرب كفاءات كان يمكن أن تنهض بالمؤسسة أو الإدارة إلى أعلى المراتب، لو أنهم وجدوا آذانا مصغية.

لقد حان الوقت لأن تلتفت الشركات إلى أهمية تدريب موظفيها على فن الإنصات، وتقيمه في نهاية كل عام، وتلزمهم بقراءة مادة مكتوبة عنه Required Reading أو إخضاعهم لاختبارات تقيم مستوى إنصاتهم، وذلك لأهمية هذه المهارة الإدارية، ولذا فإنني أكرس جزءا كبيرا من حياتي في تأليف كتب ودراسات أكاديمية ومقالات عنها، نظرا لشح المادة العربية المكتوبة حولها «كمهارة» وليست كحكم وأمثال. وقد عرف عن العرب توقيرهم للكبير والعالم وحسن إنصاتهم إليهما. ولولا وجود آذان مصغية مرهفة لدى أسلافنا لما جاءتنا إبداعات المعلقات الشعرية العظيمة. وقد آن الأوان أن نعيد لفضيلة الإنصات المنسية أهميتها في العمل والبيت والمدرسة.

[email protected]