دعوة القرآن.. للدفاع عن معابد غير المسلمين

TT

لماذا الاستمرار في الكتابة عن قضية «العلاقة المتوترة بين المسلمين والمسيحيين»؟.. أين أنتم مما يجري في لبنان والسودان والقدس (تصعيد التهويد)؟.. وفي بداهة سريعة نقول: إننا لم نبتعد عما يجري في تلك المناطق، ذلك أن ما يجري هناك إنما هو «أجزاء» للظاهرة العامة، أو القضية الرئيسية التي نطرقها: قضية: تفجير العالم كله بصراع إسلامي مسيحي، دونه التفجير بالأسلحة النووية.. ولئن تناول أناس هذه القضية وكأنها حدث عادي: تطويه أحداث أخرى، فإن نظرتنا لهذه القضية ليست كذلك.. على أن العلاقة بين قضيتنا الكبرى وما يجري في السودان ولبنان والقدس هي علاقة مباشرة وقوية: في سياق التحليل العميق والمركب - غير البسيط - فهناك من يصور انفصال جنوب السودان في صورة أن «دولة مسيحية جديدة» قد ولدت، وأن من أهداف هذه الدولة إيقاف زحف الإسلام «!!!» أو عرقلته في الجنوب والشمال معا، وأن هذه الدولة انعتاق مسيحي من ظلم المسلمين واضطهادهم.. وفي لبنان: لا يكف النفخ الخبيث بين مسلميه ومسيحييه.. أما بالنسبة لتهويد القدس، فإن للصهيونية يدا في هذا التهويد - بطبيعة الحال - ولها يدا في التخطيط لتفجير العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في العالم كله (وهذه دعوى يتوجب توثيقها).. وسيأتي التوثيق من بعد.

ولنستأنف الكتابة في ذات القضية الرئيسية.. لقد رفضت مصر - وغيرها - التدخل في شؤونها الداخلية باسم حماية مسيحييها. وهذا حقها بلا جدال، فالتدخل الخارجي - في أي صورة كان - انتقاص من سيادة الدولة، وإلا لأصبح العالم كله كيانا واحدا تحكمه (حكومة مركزية واحدة): تملي عليه كله ما تشاء، وتسيره كله كما تشاء.. هذه واحدة.. والأخرى: أن التدخل الخارجي يجر على المسيحيين أنفسهم من البلاء: ما يتعبهم ويشقيهم من حيث النظر إليهم على أنهم «مطايا» لقوى خارجية، وهي نظرة تنتقص من وطنيتهم أو من ولائهم الوطني. ولعله لهذا السبب - مع أسباب أخرى طبعا - انخرط مسيحيون وطنيون أحرار في حركات النضال ضد الاستعمار الغربي: المنتحل للصفة المسيحية.. ولنضرب مثلين من المآسي التي جرها «التدخل الخارجي» تحت ستار حماية المسيحيين

1) ففي تبريرات الثنائي المقاتل (بوش - بلير) وفي مذكراتهما مضامين توحي بأن بواعث مسيحية كانت وراء حربهما على العراق.. ومن المعروف: أن هذه الحرب أو هذا التدخل كانت له نتائج مروعة على مسيحيي العراق الذين تعرضوا للقتل والترويع والتهجير على يد مسلحين متعصبين عللوا أفعالهم الهمجية بأنها رد فعل على الحرب (الصليبية) على العراق.

2) المثل الثاني هو «الحروب الصليبية»، فلقد سُبّبت هذه الحروب بـ«اضطهاد إسلامي للمسيحيين في المشرق».. يتبدى هذا التسبيب في خطاب البابا أوربان الثاني إلى العالم المسيحي.. نقرأ في هذا الخطاب المثير: «يا أمة الفرنج، يا أبناء السلالة التي أحبها الله واصطفاها: وصلتنا من جهات القدس أنباء مفجعة مفادها أن أمة من الأمم اشتطت عن السبيل، فعاثت في ديار المسيحية سلبا وحرقا وقتلا، وقادوا جموعا منهم أسرى، ودمروا بيوت الله، فعلى من تقع تبعة الثأر واستعادة الديار؟. ألا تنهضوا أنتم بهذا الأمر؟».. ويعلق المؤرخ المحقق المنصف الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه البديع «الصراع بين الغرب وأوروبا» على دعوى البابا أوربان الثاني فيقول: «والمفارقة الغريبة أن الحملة الصليبية التي شنها البابا لإنقاذ المسيحية من الخطر، تمت في وقت لم يكن هناك أي خطر من ناحية المسلمين. إذ ابتعد الخطر وتراجع تماما في تلك الأثناء، فقد تدهورت الأوضاع الداخلية للسلاجقة، وانقسمت دولتهم وتصارعت فيما بينها، واشتد الصراع بينهم وبين الفاطميين. هذا بالإضافة إلى الانتصارات البحرية الغربية التي حققتها أوروبا في الميادين الأخرى، وهي انتصارات من بيزا والنورمانديين على القوى الإسلامية في الجناح الغربي للبحر المتوسط، وانحسار السيادة الإسلامية في تلك الجهات».. وفي ضوء هذه الحقائق التاريخية يمكن القول - بموضوعية - : إن المسلمين لم يكونوا في وضع يمكنهم من اجتياح ديار المسيحية: سلبا وحرقا وقتلا وهدما لبيوت الله - كما زعم البابا -، يُضم إلى ذلك أن دين المسلمين يمنعهم من هذا السلوك - كما سنرى بعد قليل -. والنقطة الثانية - هنا - هي: أن هذا التدخل باسم حماية المسيحيين ترتب عليه مصيبتان: مصيبة موت مئات الألوف من المسيحيين - كما مات مثلهم أو أكثر منهم من المسلمين -.. والمصيبة الثانية هي «تسميم» العلاقة بين مسلمي العالم ومسيحييه من ذلك الإبّان (1096) - حيث حدد البابا سفر الحملة الأولى -.. وإلى يوم الناس هذا.

بيد أن الأمر أعظم من مجرد التغني بالمحافظة على السيادة الوطنية - ضد التدخل الخارجي باسم حماية المسيحيين، فعلى الرغم من أن للسيادة الوطنية مكانتها العليا - القانونية والمعنوية - فإنه لا يصح - بإطلاق - أن تكون تعلة لهضم حقوق الناس - مسيحيين وغير مسيحيين - فحقوق الناس هي محور كل شيء: محور الدين.. والوطنية.. والقوانين.. والدساتير، ولذا لم يشرع شيء - قط - أو لا يجوز أن يشرع شيء ينتقص ذرة واحدة من حقوق الإنسان: الدينية منها والمدنية.. و«إنما جعل السبت من أجل الإنسان، ولم يُجعل الإنسان من أجل السبت» كما قال سيدنا المسيح صلى الله عليه وسلم.

يتأسس على هذا - بالضرورة - : أن رفض التدخل الخارجي - باسم حماية المسيحيين - : يوجب - في ذات اللحظة - أو يضاعف المسؤولية الوطنية في حماية المسيحيين من كل ظلم أو عسف ينال منهم أو من كنائسهم.

إن هذه المسؤولية تجاه المسيحيين ودور عبادتهم شرعها الإسلام وأصّلها في أول آيات أباحت الجهاد وهي آيات سورة الحج: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز».. فهذه الآيات توجب الدفاع عن دور العبادة كافة وتوفير الحماية لها.. يقول القرطبي: «لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتل الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بنته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة».. ويقول ابن كثير: «لولا أن يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم - بما يخلقه من الأسباب - لفسدت الأرض، ولهدمت صوامع، وهي المعابد الصغار للرهبان».. قال ابن جرير: «والصواب: لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود - وهي كنائسهم -، ومساجد المسلمين».. ولئلا تهدم هذه المعابد: شرع الجهاد في الإسلام!!