الدروع البشرية.. أم الدروع الدستورية؟

TT

تهليل الصحافة المصرية والعربية، لأن مصريين مسلمين حضروا قداس أعياد الميلاد «كدروع بشرية لحماية المسيحيين»، أمر يدعو للقلق.

التحرك أفرزته مشاعر عاطفية، غير عقلانية، (ونستغفر الله من إثم سوء الظن من إصرار النجوم والمشاهير من الجنسين، من كافة الدوائر، على الظهور في التلفزيون والصور كدروع تحمي المصلين!!). ويعطي الانطباع الخاطئ بأن المشكلة الخطيرة حلت.

وهو حل غير عملي (فمن سيحمي المصلين في مئات الكنائس بقية العام؟ مثلما تساءلت باحثة التاريخ المصرية عزة سليمان، في صحيفة «نهضة مصر»، الثلاثاء الماضي، مطالبة بالتوحد حول رمز مصري قومي كالعلم مثلا، بدلا من رموز دينية تؤكد انفصام الشخصية المصرية).

الدروع البشرية مسكنة - ليست حتى للمريض، وهو الأمة المصرية، - بل لمن أصابه الصداع من منظر الأورام القبيحة لأعراض المرض (كقتل المصلين في كنيسة سيدي بشر).

المسكن هذا لا يناقض ديمقراطية القانون فحسب، بل يعطل مفعولها كمضاد حيوي يقضي على جراثيم المرض في جسم الأمة ويعيده بعافية ولياقة عام 1954.

مسكن «الدروع البشرية» يظهر ما بين 10 و13% من أبناء الأمة المصرية (المسيحيين) «أقلية بحاجة للحماية» لا مواطنين على قدم المساواة مع بقية الـ87 - 90% من المصريين. الدروع البشرية تأكيد لانقسام الأمة على خطوط دينية، رغم الأعراض (أي الإرهاب) لم تفرق بين مسيحي ومسلم أو غيرهما من المصريين.

الحصانة المطلوبة للأمة ليست دروعا بشرية، بل درع أعظم اسمه «الدولة المدنية».

استقطبت مصر سلالات بشرية أخرى انصهرت في بوتقة الحضارة المصرية منذ نهاية الدولة الحديثة (رمسيس السادس 1070 قبل الميلاد) وصاروا مصريين تربطهم ملامح ثقافية واجتماعية مشتركة، وإن تباينت عرقيات الأجداد عن السكان النيليين الأقباط (بصرف النظر عن ديانتهم، جميع أبناء وادي النيل، شمال النوبة حتى المتوسط، اسمهم في التاريخ «قبط» بالإغريقية).

تدفق غير الأقباط (أي غير المصريين) في فترات ازدهار حضاري واقتصادي.

الأولى الهللينية القرن الثالث قبل الميلاد مع تأسيس مكتبة الإسكندرية كأهم جامعة في العالم درس فيها اليونانيون، والفرس، والأشوريون، والفينيقيون، علوم مصر بترجمة ماتينوس، كاهن هليوبوليس، وتلاميذه 800 كتاب من الهيروغليفية إلى اليونانية (ترجمة بعض ما بقي منها في فلورنسا القرن الـ15م إلى اللاتينية كان بداية عصر النهضة الأوروبية، - وليس من الحضارة اليونانية كما يشيع خطأ).

الثانية أثناء حكم الرومان (30ق.م - 640م)، زرعت أراضي مصر ضعفي مساحة ما زرع عام 2010، فهاجر إليها الأوروبيون بحثا عن حياة أفضل.

والثالثة بعد تأسيس محمد علي باشا للدولة المصرية الحديثة والنهضة الحضارية التي بلغت أوجها، معماريا وفنيا، على يد الخديوي إسماعيل، واقتصاديا وديمقراطيا (دستوريا) في عهد الملك فؤاد الأول، جذب ازدهار الاقتصاد المصري المهاجرين، الأوروبيين ما بين ستينات القرن الـ19، وعشرينات القرن الـ20، (مثل هجرة رءوس الأموال والعقول النابغة من مصر وأفريقيا اليوم إلى الغرب).

المتمصر محمد علي الألباني (المقدوني)، كان وأولاده أكثر وطنية وولاء لمصر من مصريين خربوا الاقتصاد وفرطوا في الحقوق وجعلوا من الفساد أسلوب معيشة.

تأسس منصب رئيس الوزراء عام 1878 وأول من شغله كان بوغوص نوبار باشا (1825 - 1899) يهودي الديانة، أرمني المولد، فرنسي الجنسية، مصري الولاء والوطنية والانتماء بإنجازات تملأ مجلدات برئاسته ثلاث فترات متقطعة آخرها 1895.

الازدهار استلزمت حمايته تطوير الاقتصاد الحر بوضع منظومة قوانين لتداول السلطة وعمل الحكومة وفصل السلطات وتنظيم المنافسة الحرة والضمانات الاجتماعية. قوانين الدولة المدنية التي ساوت بين الجميع بصرف النظر عن الدين والجنس وأصل الأجداد؛ وهو ما طمأن المستثمر لإعادة استثمار أرباحه في مصر لتشغيل مصريين، ودفع الضرائب بدلا من التهرب منها؛ وضمن تمويل الضرائب للخدمات والمرافق ليستفيد منها العمال فترفع قدراتهم الإنتاجية.

هذه المنظومة الرائعة عرفت بالدستور باشا (دستور 1923) ثمرة برلمان الحكومة الوطنية بزعامة سعد زغلول باشا، بمستوى فاق دساتير أوروبية في تقديس مرجعية الأمة كمصدر أساسي لكل السلطات، بتفويضها البرلمان كمشرع فوق الحكومة، المنفصلة إداريا عن الدولة، وبدورها منفصلة عن المؤسسة الدينية (وتعددت وقتها ديانات الوزراء ونواب البرلمان).

كانت نهضة مصر ثمرة ثورة 1919 (التي شملت جميع المصريين، باختلاف الديانات، والمهاجرين متعددي الأصول)، وثمرة الحضارة الفكرية للملك فؤاد (مؤسس جمعية الإسعاف والخدمات الصحية والجامعة)، ونهض الاقتصاد باستثمارات بنك مصر (ثمرة عبقرية طلعت حرب باشا أبو الصناعة المصرية).

كان الاقتصاد مزدهرا والجنيه المصري من أكثر عملات العالم استقرارا وقوة بفضل الذهب الأبيض، القطن المصري، (الذي أدخل زراعته محمد علي). وأثناء أزمة الكساد العالمي في الثلاثينات وانتحار مستثمري وول ستريت من نوافذ ناطحات السحاب، هرب الحاذق منهم بأمواله إلى مصر.

فاقت القاهرة والإسكندرية باريس ولندن رونقا وحضارة. ووثق الزعماء والباشاوات بالطب المصري فسافروا إلى أوروبا للرسميات والترفيه فقط وتعالجوا في مصر. وتحكي الليدي كيلليرن (وحضرنا عيد ميلادها الـ101 مساء أول من أمس) أرملة السير ريتشارد لامبسون، المندوب السامي البريطاني أثناء مباحثات مصطفى النحاس باشا في اتفاقية الجلاء مع الإنجليز (وقعت عام 1936 بجلاء آخر جندي عن مصر في 20 عاما وهو ما نفذه الإنجليز في يونيو/ حزيران 1956)، تقول الليدي كيلليرن إنها فضلت مصر على إنجلترا وولدت في مستشفى القصر العيني تحت رعاية أشهر أطباء النساء وقتها الدكتور نجيب محفوظ باشا (وفيلته في جاردن سيتي اليوم مقر بنك البركة).

وتبنى البرلمان المصري اقتراح الملك فؤاد، فأصدر قانون الجنسية والمحاكم المختلطة بتمتع كل من ولد في مصر (بصرف النظر عن جنسية أبويه)، بالجنسية المصرية، ومنحها لمن دفع الضرائب لست سنوات، أو خدم في الجيش المصري أو قدم خدمة جليلة للأمة. قانون بعيد النظر يضمن ولاء الجميع لمصر الوطن، ويكافئ من يعمل من أجل مصر، ويحفز المستثمرين على إبقاء أموالهم في مصر ودفع الضرائب بها (ألغى مجلس الضباط الأحرار القانون عام 1954 - بلا رجوع للبرلمان - فطرد كل من لم تستخف الحكومة الجديدة دمه!).

ولذا فالدرع البشري المطلوب لحماية الدولة المدنية، كحل مصري 100% صممه المصريون وجربوه من قبل لأنه فصل على مقاس الأمة المصرية، وهو موجود في مخازن البرلمان المصري، ومطلوب نفض التراب وخيوط العنكبوت عنه. الدرع اسمه دستور 1923.