فشل النخبة!

TT

هل من جامع يجمع بين أحداث السودان والجزائر مرورا بتونس ولبنان، ولا استثناء للإسكندرية أو بغداد أو صنعاء من بين عواصم عربية كثيرة؟ يتساءل المتابع، فلأول وهلة هي أحداث دوافعها إما معيشية وإما سياسية وإما الاثنان معا، وبواطنها كامنة في أكثر من مكان، تفتش عن ظرف موات للانطلاق.. إلا أن العامل المشترك هو فشل النخب العربية في توقع هذه الأزمات، ووضع الحلول لها قبل أن تستفحل.

علماء الاجتماع قالوا لنا منذ زمن لماذا يثور الناس! هم يفعلون ذلك ليس لأن الفقر قد عض أمعاءهم، فالفقراء الذين يعيشون على حافة الجوع هم في صراع محموم للحصول على المأكل والمأوى، أما الأغنياء فهم في جهد للحفاظ على الوضع القائم حتى لا يحدث تغيير يحرمهم من الامتيازات التي يتمتعون بها.. يثور الناس عندما تفقد «الأغلبية الوسطى» الأمل في تحسين معيشتها، هذه الأغلبية الوسطى تقع في الغالب في مكان من عدم اليقين بالمستقبل، فتفتش عن يقين جديد. وهي مرة أخرى إما أن تتبع أقلية الصفوة وإما أقلية الغوغاء. فشل الصفوة - وهم الأشخاص المتفوقون عقليا في السياسة أو الأدب أو العلم أو التجارة، أي قادة المجتمع - فشلهم في بناء الأمل للعامة يجعل العامة تفقد ثقتها في ما هو قائم من سياسات.

يعتمد سير الأحداث بعد ذلك على وجود قيادة تقدم ذلك الأمل وترسم معالمه، حتى لو كان الأمل برق خلب؛ حديثا عن المأمول دون أن يتحقق أي شيء منه على الأرض. أكثر من يأسف على أحداث الثورة، هم من ساهموا فيها، عندما يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود. والأمثلة في العرب وفي جيرانهم كثيرة، فقد رسمت آمال في المخيلة الشعبية لم تفض إلا إلى الخسران. إن كل ما قيل من أمل ووعود هو فقط آمال في الهواء، سواء كانت وعودا معيشية، كأن يتوافر العسل والخبز للجميع، أو معنوية، كأن تتوافر الحريات لكل فرد سيان. بعد أن تقع الفأس في الرأس وتخرب الأوطان، يحصد الجميع الخيبة!

فشل النخب في خلق الأمل له طريق طويل يبدأ بأن يتآكل تدريجيا الاحترام للأوضاع القائمة ويتم اختراق القانون وتسخيره للبعض وحرمان الأغلبية منه، نتكلم هنا عن غياب العدالة. التآكل في مراحل تاريخية سابقة كان نادرا ما يعرف للعامة، فكان يقع خلف أسوار عالية من التكتم والسرية، اليوم تآكل الاحترام للأوضاع القائمة سريعا ما يعرف، ليس فقط لأن وسائل الاتصال أصبحت سريعة والتواصل عاد أكثر تشابكا، ولكن أيضا لأن مظاهر التآكل أصبحت ظاهرة للعيان، زادها هذا الانكشاف الهائل في الأسرار بالصورة والصوت الذي ينقله لنا «ويكيليكس» و«يوتيوب». نقلت لنا من جنوب السودان مظاهر التخلف وفقر المجتمع، كما نقلت إلينا الأخبار مدى عمق الحرمان في الأرياف والمدن العربية الخارجية الفقيرة. أما الطريق الثاني لفشل النخبة، فهو فقدان الهدف أو ضبابية ما يصبو إليه المجتمع من أهداف، فليس هناك شامل جامع يستقطب الأغلبية ويستفيد من طاقاتهم، غير ربما النجاة الفردية البحتة.

في الخمسين سنة الأخيرة اجتاحت الدول العربية حركة تغيير ضخمة، كان بعضها موجها إلى أشكال الاستعمار القديم، والآخر يتوق إلى خلق مجتمعات حديثة بالتخلص من الطبقة السياسية السائدة.. إلا أن معظم النخب التي وصلت إلى السلطة استمرأت البقاء فيها ووزعت المغانم على الأتباع، مما خلق معادلة سلبية، فكلما توزعت المغانم على الأتباع، قل الإخلاص من الأتباع للمشروع النهضوي، حتى لو كان صوريا، وانتشرت الانتهازية، التي أفسدت بدورها هيكلية الدولة حتى فقدت النزاهة ومعها العدل، إنه باختصار جمود القوى الحيوية التي واكبت حركة التغيير الأولى ووصولها إلى الطريق المسدود.

يجذب الناس إلى حركات الاحتجاج أنها تقدم بديلا للأمل الفردي بأمل جماعي للخلاص من الوضع القائم، الذي لم تخلق له آليات معقولة للتغيير المنظم. معظم النخب العربية تبقى هناك لعشرات من السنين، بل ترمي إلى توريث ما هو قائم للجيل الذي يأتي بعده، فحركة التغيير التي اكتشفت المجتمعات الأخرى أهميتها في التداول السلمي للسلطة لم تجد لها بيئة صالحة بين ظهرانينا، بل إن هذه النخب قد تجاوزت حتى ميكانيكيات القيادات التاريخية / التقليدية، من الحرص على توسيع قاعدة الحكم وخلق التآلف متى ما مال إلى الاختلال، وظهور القوي بوداعة الضعيف، وخنق عدم الرضا في مهده قبل أن يتفاقم.. هذه الآليات التقليدية افتقدت بسبب الركون إلى القوة المفرطة واستخدام أدوات القمع الحديثة المباشرة وغير المباشرة لإسكات الاحتجاجات، إلا أنه تبين أن هذا المنحى حبله قصير في ضوء التطور العالمي.

ما نشاهد اليوم هو انبعاث لحيوية جديدة، إلا أنها فاقدة للرأس، أي فاقدة لشكل الأمل المرتجى، ومخاطر هذا الفقد كثيرة، أقلها أن يقع الجمهور في أيدي التطرف والجهل، وهو توقع معقول وقائم أيضا، فالتطرف لا أمل له، والجهل يمزق الأوطان، والمرحلة العربية المقبلة يبدو أنها سوف تحتضن تحالف الاثنين.