هذا الـ«يناير» الأسود.. بفعل ذلك «السيد» الأبيض

TT

نحن، كما الأصدقاء إخواننا في السودان، عشنا شهرا كاملا من القلق غير المسبوقة حدته في انتظار ذلك الموعد المبغوض مع ذلك الفعل الذي طبخه «السيد» الأبيض ليولمه في عهد رئيسه الأسود. موعد مع يناير الانفصال... «يناير الأسود» بالمعنى اللوني للذين اختاروا الانفصال، والمعنى الكارثي الوجداني للذين أسهموا بهدف مداواة جرح الاستنزاف بالأموال والأرواح، فإذا بجرح الكيان ينفتح وينذر بما هو أشد...

ولا بد ونحن أمام هذا الموعد من التوقف عند نخوة جاءت من الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي قام يوم الثلاثاء (28/12/2010) بزيارة إلى الخرطوم شملت لقاءات مع الرئيس عمر البشير وبعض المسؤولين الشماليين وأخرى مع قيادات جنوبية، فضلا عن تقديمه خلال انتقاله إلى «جوبا»، عاصمة التوأم الجنوبي للشقيق الشمالي، «هدية ميلادية» من الجامعة العربية إلى الجنوبيين عبارة عن عشر عيادات طبية تعمل كمستشفى متنقل وبوسعها توفير الخدمات العلاجية وإجراء الجراحات البسيطة. وينطبق على هذه الهدية من الجامعة العربية، التي أمانتها العامة وأمناؤها المتعاقبون من عبد الرحمن عزام إلى عبد الخالق حسونة إلى محمود رياض إلى الشاذلي القليبي إلى عصمت عبد المجيد وصولا إلى عمرو موسى، دائمة الشكوى من الوضع المالي وعدم انتظام تسديد مساهمات الدول الأعضاء – عدا قلة – في ميزانية جامعتهم، قول الشاعر: «لا خيل عندي أهديها ولا مال...». والقصد من القول والتشبيه أن الجامعة ليست في بحبوحة لكي تهدي، ولكنها أريحية الأمين العام الذي تأتي هديته العيادية الطبية إلى الجنوبيين وكأنها هي «دبلة» الخطوبة لدولة عضو جديدة في الجامعة ويعني بها العروس الداكنة اللون التي اسمها «دولة الجنوب» أو «السودان الجديد» أو «السودان الجنوبي» كما «كوريا الجنوبية» مقابل «كوريا الشمالية» وكما، ربما، ليس بالبعيد «العراق الشمالي» في حال استقر راسمو الخريطة الجديدة للمنطقة على أن يستقل الأكراد في دولة تنتسب لاحقا إلى الجامعة العربية كما جنوب السودان، وبحيث يعاد النظر في تسمية هذه الـ«جامعة» وهو ما كان قيد التشاور في القمة العربية التي استضافها الرئيس معمر القذافي مرتين خلال العام الماضي، مرة دوريا ومرة استثنائيا في عاصمته السياسية «سرت».

وهدية عمرو موسى الأمين العام للجامعة، التي شارك ثمانون من دبلوماسييها كمراقبين في عملية الاستفتاء الذي تم الأحد 9/1/2011، لا تختلف من حيث (لا خيل عندي أهديها...) عن هدية فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي الذي هاله المشهد الانفصالي المتوقع حدوثه فأفتى بتحريم إقدام الجنوبيين المسلمين على التصويت إلى جانب الانفصال. عظم الله أجر مولانا القرضاوي وعوض الله أميننا العام عمرو موسى على هديته.

وأما الرئيس عمر البشير، الذي يتزامن خيار انفصال جنوب سودانه مع الذكرى الخامسة والخمسين للاستقلال بعدما كانت قامت ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 في مصر وارتضت عام 1953 إعطاء شعب السودان حق تقرير المصير، فإن هديته للمناسبة كانت مزدوجة. فمن جهة وبما يؤكد اقتناعه بأن كفة حدوث الانفصال تميل على كفة البقاء في كنف التوحد، قال: «إنني أتعهد قبول نتيجة الاستفتاء وحدة أو انفصالا، لا نكوص عن هذا العهد ولا تردد أو تراجع فيه». ومن جهة أخرى يفتح الباب أمام الطيف المعارض من أجل نوع من المشاركة وفق خريطة يرسمها بطبيعة الحال «الإنقاذ» الذي سيكون بعد استفتاء 9 يناير (كانون الثاني) غيره قبل ذلك، أي أقل عنفوانا. ويتمثل فتحه الباب أمام الطيف المعارض بقوله: «أدعو القوى والأحزاب السياسية وقادتها لتوحيد قلوبهم وأذهانهم وراء هدف واحد هو تدعيم أسس الأمة واستقلالها بعيدا عن التدخل الأجنبي».

هذه الهدية البشيرية مثل هدايا «بابا نويل» لمناسبة عيد الميلاد. تبعث البهجة في نفوس الأطفال ثم سرعان ما يستأنف هؤلاء المتاعب. لكن في أي حال عظم الله أجر الرئيس البشير وطاقم «الإنقاذ» من الحواريين الذين لم يقرأوا قبل خمس سنوات نيات إخوانهم الجنوبيين وبذلك وصلت الحال إلى وقت يقول فيه الأخ ياسر عرمان – وليس الأخ منصور خالد، والاثنان شماليان أبا عن جد - ما معناه أنه من الممكن عدم حدوث الانفصال، لو أن عهد «الإنقاذ» وافق على تداول الرئاسة، وهو اقتراح فولكلوري بتوليفة ديمقراطية حضارية في بلد متخلف اجتماعيا متقدم ديمقراطيا بحيث يكون الرئيس لدورة هو الرئيس (المسلم) عمر البشير أو من يتم اختياره من مربع الشورى (نافع نافع، علي طه، مصطفى إسماعيل، قطبي المهدي)، ويكون الرئيس لدورة تالية هو سلفا كير أو من تراه «الحركة الشعبية لانفصال السودان»، كما حقيقة مبتغاها وإن هي اعتبرت الانفصال تحريرا كغطاء للنيات مع ملاحظة أن مفردة «التحرير» ربما تكون فعل انفصال وربما فعل استيلاء. كما أن من الشروط العرمانية بقاء جيش الحركة على حاله، أي أن يكون السودان بجيشين كما حال لبنان حاليا وكما حاله أيام ازدهار الهيمنة الفلسطينية العرفاتية على لبنان، ثم كما حاله في بداية الحرب الأهلية «أبريل (نيسان) 1975» حيث بات الجيش جيوشا إلى أن استقرت الحال طوال سنوات الدور السوري، حيث كان الجيش الشقيق ولا أي جيش، وكان الجيش في لبنان حالة عسكرية مكسورة المهابة قيد النمو. وعندما تكون هذه هي بعض الشروط العرمانية بطريقة ياسر العرفاتي عن لبنان، فإن ياسر السوداني الذي دفعت به الحركة للترشح رئيسا وازدرد الرئيس البشير و«إنقاذه» في حينه هذه اللقمة المغمسة بالحصى يكون بقوله مبشرا بانفصال قريب ويكون القول تأكيدا لبواطن العلاقة الملتبسة وبأن الجنوبيين يتقدمون انفصالا، وأن «أهل الإنقاذ» يراوحون مكانهم ويحاولون إقناع أنفسهم بروحية قول الشاعر:

وإن الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

عوض الله لـ«الإنقاذ» المجد الذي ذهب مخطوفا وكان الله في عون العصفورين الشماليين منصور خالد وياسر عرمان اللذين غردا على مدار الساعة في السرب الجنوبي السوداني كما تغريد العماد ميشال عون في السرب الجنوبي اللبناني الذي لم ينل منه حتى إشعار آخر ما ناله السرب الجنوبي السوداني. وتغريد الثلاثة هو من أجل النيل بالتمني من التحالف ما لا ينال غلابا في إطار واقع الحال. والعصفوران الشماليان خسرا في ضوء الانفصال «كسرة» التراث الشمالي من دون أن يتنعما بغنائم الانفصال و«التراث الجنوبي» فأصابهما عمليا بعض الذي أصاب الصاغ المصري الثوري الراقص صلاح سالم (رفيق جمال عبد الناصر في ثورة 23 يوليو 1952)، ذلك أن خيار الانفصال الذي ما كان ليتمناه كل منهما أفقدهما ذريعة الانتساب إلى الطيف الجنوبي الذي كان يخوض كتسمية غمار «تحرير السودان» ثم انتهى الأمر عمليا «انفصال الجنوب» وبذلك فإن وجود العصفورين في السرب الجنوبي سيكون فولكلوريا بعض الشيء... إلا إذا اعتبر سلفا كير أن هذين العصفورين اللذين ورثهما عن الزعيم الجنوبي المغيب جون قرنق هما مثل تشي غيفارا بالنسبة إلى الزعيم المعمر فيدل كاسترو، أو أن كلا منهما هو خير من يكون «المفوض السامي الجنوبي» في الخرطوم، لكن ذلك قد يصطدم بمسألة الجنسية وهل يمكن أن يحتفظ كل منهما بالجنسيتين الشمالية والجنوبية وهل في هذه الحال يخضع لقوانين الشمال. وهذه أيضا أحجية.

الحكاية السودانية وبالذات الفصل «الإنقاذي» منها حكاية طويلة. وكل مشاهدها تثير الدهشة وبالذات المشهد ما قبل الأخير قبل إسدال الستارة، حيث أراد «المخرج الإنقاذي» أن يؤكد أهمية إضفاء الروح الرياضية على قسمة الوطن وإلى درجة إعلان سيد «الإنقاذ» بأنه سيحترم إرادة الأخ الجنوبي الذي لا يتطايق البقاء تحت السقف الواحد فإذا بهذا المخرج يجسد الحال على أن الذي جرى هو ما ينطبق عليه القول شعرا مع بعض التعديل: وفي السودان «الإنقاذي» ضحك كالبكا.