لا.. ليست هذه هي الحكاية

TT

كان الشر كريما معنا نحن المصريين في الأيام الأخيرة، فبعد حادث التفجير في الإسكندرية أمام كنيسة القديسين، وقبل أن تجف دماء القتلى، انتقل الشر على الفور إلى جنوب الوادي ليضرب ضربته الثانية، أحد مندوبي الشرطة، وهي درجة بين الشرطي وأمين الشرطة، صعد إلى القطار المتوقف في محطة سمالوط بمحافظة المنيا والتي كانت تسمى «عروس الصعيد» ثم أطلق النار بشكل عشوائي على عدد من ركاب العربة فسقط قتيل، وأصيب عدد آخر إصابات كبيرة استدعت نقل بعضهم بالإسعاف الطائر إلى مستشفيات القاهرة، القتيل والمصابون تصادف أن كانوا جميعا من المسيحيين، ولقد استخدمت كلمة «تصادف» إلى أن تثبت التحقيقات صلة ما حدث بالصدفة أو عدمها، وعلى الفور بدأت ماكينة الإعلام في مصر في الدوران بكامل سرعتها، وفي دورانها حرصت على أن تدور رؤوس المصريين جميعا في حالة «إجهال» إعلامية تمثلت في الإلقاء بعشرات الحقائق التي تعقبها على الفور عشرات التكذيبات التي تنفي ما سبق لها أن أعلنته. هناك شخص في مصر لا يعرفه أحد، اسمه الثلاثي هو مصدر أمني مسؤول، وفي الغالب هو يعمل رئيسا للإدارة العامة لنفي الأخبار التي تقولها الجرائد وتصبها الكاميرات والميكروفونات على الناس، اسم الإدارة طويل كما ترى غير أنه على الأقل يصف بدقة مهمتها. وإذا كنت يا عزيزي القارئ من الأجيال التي عاشت ستينات القرن الماضي، وإذا كنت تتمتع بقدر معتبر من نظرية المؤامرة، فسيكون من السهل عليك أن تعتقد أن المسألة كلها تخضع لنظرية توزيع الأدوار، أنت تقول كذا.. وهي تقول كذا.. ثم أصدر أنا بيانا أنفي فيه ما قلته أنت وما قالته هي، وبذلك يتحقق لنا ذلك الهدف الشهير وهو ألا تتمكن الناس من التمييز بين رؤوسهم وأقدامهم.

أبتعد الآن عن ذلك الحادث المؤلم لأحتمي بمهنتي القديمة وهي الفكاهة، التي تركتها منذ أعوام طويلة أو لعلها هي التي تخلت عني عندما خنتها وقررت أن أكون كاتبا جادا أو هكذا أظن أنا وبعض قرائي الطيبين. اسمع يا سيدي.. دخل أحد الرجال أحد أقسام الشرطة ومعه طفله الصغير الذي لم يتجاوز عمره العاشرة، لقد جاء إلى القسم لكي يقدم بلاغا عن سرقة سيارته، فتح ضابط الشرطة المحضر وقام بتسجيل كل المعلومات المطلوبة عن السيارة من أجل إبلاغ قيادته المختصة لوضع خطة البحث عنها، وعندما سأله عن ماركة السيارة قال الرجل بثبات: مرسيدس..

وهنا نظر إليه الطفل في دهشة وفتح فمه وكأنه على وشك أن يصحح له شيئا، غير أن الأب رد عليه بنظرة صاعقة أسكتت الطفل على الفور. وبعد أن انتهى من الإدلاء بأقواله خرج هو وطفله من القسم، وفي الشارع سأله الطفل: يا با.. العربية بتاعتنا فيات.. قلت لهم ليه إنها مرسيدس؟

فرد عليه الأب ساخطا: إخرس انت.. انت مش فاهم حاجة.. قلت لهم مرسيدس عشان يهتموا.

عبقرية النكتة هنا تكمن في أنها تكشف بوضوح وقوة عن نوع منتشر من آليات التفكير، وهو استخدام الخبث الذي نتصوره ذكاء، في ضياع ما نهدف إلى الحصول عليه. لقد كذب الرجل على الجهة المنوط بها مساعدته في الحصول على سيارته الضائعة، كذب عليهم لكي يدفعهم إلى المزيد من الاهتمام. غير أن ذات الاهتمام الذي يطالبهم به من خلال الكذبة سيكون هو السبب في ضياع ما يريد العثور عليه. أنا أفترض أن كل العاملين في وزارة الداخلية على طول وادي النيل وعرضه، في كل الطرق السريعة والبطيئة وفي كل المدن والقرى، وفي كل الشوارع والحواري، وقفوا في غاية اليقظة باحثين عن هذه المرسيدس، بالتأكيد لن يصلوا إليها لسبب بسيط أنها ليست موجودة من الأصل. هذا هو بالضبط ما تفعله الأكاذيب في حياة البشر، تفقدهم ممتلكاتهم المادية والمعنوية.

كل مسؤول يصدر بيانا الهدف منه دفع الآخرين إلى الاهتمام بأمر ليس له صلة بالحادث، المحافظ يريد إفهام الناس بأن ما حدث ليس له صلة بما يسمى الفتنة الطائفية ويقول: ده مجرد واحد طلع قطر، وقعد يضرب الناس بالرصاص.

هكذا دارت عجلة الإعلام في هذا الاتجاه، لقد أطلق القاتل النار على ضحاياه من غير أن يعرف أنهم مسيحيون. عندما تركب طائرة سيكون من الصعب عليك أن تعرف ديانة أي من ركابها، غير أن الأمر يختلف عندما تركب قطارا في صعيد مصر، كل من لا ترتدي حجابا فهي مسيحية، هذا إذا كانت لا ترتدي صليبا. ليس معنى ذلك أن مندوب الشرطة أطلق النار عليهم بدافع من التعصب، فهذا الأمر من المستحيل تحديده من غير تحقيقات موسعة لا أعتقد أن أحدا سيكون في حاجة إليها، غير أنني فقط أنفي حكاية أن الفاعل لم يكن يعرف ديانة ضحاياه، لست أصب زيتا على النار، أنا فقط أنبه لحتمية تسجيل نوع السيارة المفقودة من أجل استعادتها.

الشاهد الوحيد الذي تستخدمه كل أجهزة الإعلام الآن، هو شاب في العشرينات كان من ركاب القطار وتصدى للمتهم واشتبك معه واستطاع أن ينتزع منه مسدسه، بل أمسك بسترته فخلعها المتهم وهرب، فطارده على رصيف المحطة غير أنه تمكن من الإفلات، إلى أن تمكن رجال الأمن من الوصول إليه بعد أن اطلعوا على بعض أوراقه الثبوتية، كان نائما في البيت ليستريح من عناء المجهود الذي بذله.

قال الشاهد: كنت أجلس بجوار الباب.. ودخل هو.. كان القطار متوقفا.. وعلى الفور أخذ يطلق النار على الناس.

وتسأله المذيعة: هل قال شيئا..؟

- لا.. لم يقل شيئا.

الواقع أن الشاب أثناء شهادته أمام الكاميرا قال إنه كان يضع سماعة الراديو على أذنيه، ربما أصدق أنه لم «يسمعه» يقول شيئا، ولكني لا أصدق شيئا آخر وخاصة بعد أن قال الأب في شهادته («الشروق»، الطبعة الثانية، 14 يناير 2011) عن اعترافات جديدة للمتهم، حيث أكد للمحامي العام الأول لبني سويف أن السبب في الحادث هو قيام والد المصابتين بنهره وسبه لجلوسه بالقرب من الفتاتين ظنا منه أني أعاكسهما، ولما رفضت القيام من مكاني جذبني ناحيته وكاد يوقعني، وحينها ثرت عليه وكانت الحادثة».

هذه هي أقوال المتهم أمام المحامي العام، كل ذلك لم «يسمعه» الشاهد، وبالتأكيد لم يسمع بقية الكلمات التي قالها المتهم، ليس بسبب سماعه للموسيقى، بل ربما لأنه لا يراد لنا أن نعرف ما قاله في حالة هياجه. وبذلك تستقر في عقولنا حكاية أن شخصا صعد إلى قطار وأطلق النار على من فيه.. بس.. هي دي الحكاية. لأ، ليست هذه هي الحكاية.