أيام فاتت

TT

احتل الشيخ عبد القادر الكيلاني مكانة خاصة في قلوب المسلمين في باكستان والهند وبنغلاديش. كثيرا ما رحل أبناؤهم في السنين الخوالي إلى العراق لمجرد أن يتبركوا بضريحه ويخدموا المسجد والأسرة الكيلانية. كثيرا ما كان يدفع بهم حماسهم في هذه الخدمة إلى البقاء في بغداد ليموتوا ويدفنوا في مقبرة الإمام الغزالي المجاورة.

كان من هؤلاء الحاج حسن الهندي. قضى حياته بين جدران جامع الكيلاني يأكل من زاده المتواضع، شوربة العدس الشهيرة وتمر الزهدي وخبز التنور، وينام في فنائه. كرس نفسه لدراسة علوم الدين بتوجيه العلامة الشيخ صبغة الله الحيدري، وتخرج على يديه فعينه مدرسا في الحضرة الكيلانية.

في هذه الأيام التي شغلتنا بمصائب الإرهابيين من الإسلامويين وكل هذا التعصب والتشدد الذي أخذ يجتاح عالمنا الإسلامي، بل وأخذ يزحف إلى دنيا الغرب، علينا أن نتذكر تلك اللآلئ التي تألقت في تاريخ هذا الدين وتميزت بروح العقل والسماحة والحكمة الدينية والدنيوية. كان من هذه اللآلئ هذا الرجل الغريب، الحاج حسن الهندي. كان يقضي نهاره في العبادة والوعظ والتدريس في أروقة الجامع. وفي أيام الصيف الملتهب، كان يأخذ مكانه فيجلس على دكة الباب الشرقي للجامع بعد أداء صلاة العشاء. يعرض نفسه للمارة من الرجال والنساء ليستفتوه في شؤونهم.

تعرف المنطقة المحيطة بجامع الكيلاني في بغداد بمحلة باب الشيخ تيمنا به. وهي منطقة تلونت بشتى الألوان. أنجبت نخبة من كبار الساسة والعلماء والشعراء، وخلفت أيضا جموعا من الأشقياء والعصاة والمجرمين وقطاع الطرق. كنت في صباي أتحاشى ولوج أزقة هذه المنطقة. وفد نفر من هؤلاء العصاة إلى دكة الحاج حسن رحمه الله. وبين الجد والهزل سألوه أن يعطيهم فتوى. قالوا نحن نريد أن نسكر اليوم ونشرب عرقا. أعطنا فتوى تحلل لنا ذلك. سألهم: هل أديتم صلاة العشاء؟ قالوا لا. قال اذهبوا وتوضأوا وصلوا ركعتين أمام ضريح الشيخ. وعندئذ سيجوز لكم أن تشربوا من العرق ما شئتم.

خرجوا وتوضأوا وصلوا، وعندما انتهوا من الركعة الثانية وسلموا، لم يعد بإمكانهم أن يفكروا في شرب الخمر. فانصرفوا إلى بيوتهم تائبين.

توفي الحاج حسن الهندي عام 1269 هجرية، وخلفته في مسلكه ابنته الوحيدة وسارت على هديه وفكره. كانت رحمها الله هي الأخرى من أنوار الإسلام الساطعة. فتحت مدرسة لتحفيظ النساء القرآن الكريم. بيد أنها سلكت في ذلك مسلكا إصلاحيا. بدلا من مجرد حفظ كلام الله على الصدور، راحت تعلمهن القراءة والكتابة ليستطعن قراءة المصحف الشريف بأنفسهن، وبالتالي ليزددن علما ومعرفة وتواصلا مع واقع الحياة ومتطلباتها.

وكانت أياما، أيام العراق المشرق في عصر الظلمات. أيام وفاتت.