أين عشاقك سمّار الليالي؟!

TT

منذ أن وعيت على الدنيا وجدة مدينة طروب كل ما فيها يغني، ففي الليل كانت تصل إلى مناماتنا في أسطح الدور بحارة البحر أصوات النشامى تنطلق من مقهى اليماني بموشحات «الصهبة»:

«جبال الكحل تفنيها المراود

والمال - يا عيني - تفنيه السنين».

وتتداخل مع صوت «الجسيس» من موكب العريس الآتي من حارة المظلوم إلى تخوم حينا مغردا.

ومرت قافلة من الأعوام، رسخت جدة خلالها مكانتها كمنصة انطلاق للفن الغنائي في البلاد، إذ شهدت ابتداء من عقد الستينات من القرن الماضي وجودا مكثفا للفن والفنانين في جدة، وتحولت حفلات المدينة إلى مهرجانات فرح، فليس ثمة ليلة لا تنطلق فيها الأصوات بالغناء، حيث ضمت في فترة من تاريخها أعمدة فن الغناء والموسيقى، أمثال: طلال مداح، ومحمد عبده، وغازي علي، وفوزي محسون، وعبادي الجوهر، وعمر كدرس، وسامي إحسان، ومحمد عمر، وعبد المجيد عبد الله، وطاهر حسين، وغيرهم. وهذه الفترة تشكل الفترة الذهبية من تاريخ الغناء والموسيقى في السعودية، اعتاد خلالها كل حي من أحياء المدينة أن تكون له أماكن سمره، أو منتدياته الفنية التي تحتضن ليلا هؤلاء الفنانين مع مثقفي المدينة وأدبائها قبل أن تتباعد المسافة، وتتسع الفجوة بين الثقافة والفن، وبين المثقفين والفنانين، فاكتفى الفنانون بمعجبيهم، وأدار المثقفون والفنانون ظهورهم عن مواكبة الحركة الفنية ومتابعتها.

لكن جدة اليوم توشك أن تغرق في حالة تجهم لا تتفق مع تاريخها وسيكولوجيتها وطبيعتها الاجتماعية، فجف ليلها من الغناء، وخلت حفلات زفافها من الفنون، حتى ليصعب التفريق فيها بين الكثير من المآتم والأفراح، ولم تعد جدة تخرج ليلا من البحر جنية حسناء تسامر العشاق والسهارى و«المجاريح»، وكأن هذه المدينة التي تعودت السهر أريد لها أن تتثاءب مبكرا، وهي التي خلقت من تزاوج الأقمار والنجوم!

ولعله ليس صدفة أن ينطلق من المذياع في هذه اللحظة من هزيع الليل صوت محمد عبد الوهاب مغنيا:

«أين من عيني هاتيك المجال

يا عروس البحر يا حلم الخيال؟

أين عشاقك سمار الليالي؟

أين من واديك يا مهد الجمال؟».

كان عبد الوهاب يغني ذكريات جندوله في «فيينا»، وكنت أغني ذكريات عمري في «جدة»، فكل يغني على ليلاه.. وجدة «ليلى» و«ليل» العاشقين.