خمسة أيام بلياليها من المراقبة!

TT

من المفارقات التي ما زلت أذكرها، أنني سنة من سنوات قضيت عدة أيام في جزيرة من جزر البحر الأبيض. طبعا ضمن هواياتي - غير السباحة - مراقبة الناس، وبعضهم يعتبر تصرفي هذا فضولا، وبعضهم يعتبره (حشرية ولقافة).

المهم أنه لفت نظري أحد الأثرياء العرب الذي يملك (يختا) باذخا، وحيث إن ذلك اليخت كان من الصعب عليه أن يرسو في المرسى الصغير لتلك الجزيرة، فقد أوقفوه بعيدا عن الشاطئ بما لا يقل عن (200) متر.

المفارقة ليست هنا، ولكنها في ذلك الرجل الثري المغرم مثلي بالسباحة.

واسمحوا لي بأن أروي لكم حكايته بالمختصر غير المفيد، وقبل أن أبدأ لا بد أن أعترف لكم بـ(عادة) متأصلة عندي. لا أدري هل هي عادة (حميدة أم خبيثة)؟! إذ إنني لا أسافر ولا أتنقل إلا ومعي جهازان: 1) (كاميرا) تصوير فوتوغرافي، 2) (دربيل) مقرب للمناظر البعيدة، فأصور ما يعجبني وما لا يعجبني من البشر والطبيعة، وأقرب ما يعجبني وما لا يعجبني كذلك من البشر والطبيعة.

وأصبحت يوميا وبعد أن أتناول إفطاري في الفندق وأقرأ الصحف، أذهب سيرا على أقدامي إلى مقهى على الشاطئ، لأمارس هوايتي الأولى، وبعد أن أتعب قليلا أتجه إلى إحدى الطاولات وأجلس لأمارس هوايتي الثانية متناولا (الدربيل) الخطير، مركزا اتجاهه على ذلك (اليخت) بالذات، الذي يغدو قاب قوسين أو أدنى مني، وما أن تقترب الساعة من الثانية عشرة ظهرا حتى تدب الحركة في أرجاء اليخت، وبعدها بنصف ساعة تقريبا يظهر الرجل الثري واقفا بجسده المكتنز على سلم النزول، وفجأة يقذف بنفسه في الماء، وبعده بدقيقة يتقافز أفراد (الحاشية) الواحد تلو الآخر متجهين إلى الشاطئ، ولا أنسى منظره وهو يسبح أمامهم بما لا يقل عن خمسة أمتار - لزوم (البرستيج) على ما أظن. وهو ذكرني بالبطة التي تسبح وأفراخها خلفها يتبعونها، والفرق بينهما أن أفراخ البطة يتقاطرون خلف بعضهم البعض في خط رأسي، بينما حاشية ذلك الثري يسبحون خلفه الواحد بجانب الآخر في خط أفقي، وكأنهم طابور من العسكر، أو صف من المصلين يقفون خلف الإمام.

ولقد عددت أفراد تلك الحاشية في الذهاب والإياب، ووجدتهم في حدود الخمسة عشر، أحيانا ينقصون وأحيانا يزيدون.

وما أن يصلوا إلى الشاطئ حتى يتجهوا جميعا إلى البوفيه المفتوح في ذلك المقهى لتناول طعامهم، في الوقت الذي يأتي فيه من اليخت قارب صغير محمل ببعض الملابس والمناشف والحاجيات لاستعمالاتهم.

وبعد أن ينتهوا من طعامهم، يأخذ البعض منهم في تبادل الأحاديث والتدخين، بينما الأغلبية منهم يتسطحون فوق الكراسي الممدودة وتحت الشماسي المنصوبة، ويغطون في سبات عميق - بمن فيهم سيدهم.

وما إن يفيقوا في العصر وقبل أن تغرب الشمس، حتى يعودوا تماما مثلما أتوا، وبنفس الكيفية والنظام، أي الثري أمامهم بخمسة أمتار، وجميعهم خلفه يسبحون صفا واحدا الكتف تلامس الكتف.

هل تصدقون أنه خطر على بالي يوما أن أنظم سباحة مع تلك الحاشية، لولا أنني في آخر لحظة تراجعت، لأنني خشيت مما لا يحمد عقباه.

المهم لا تسألوني عن مراقبتي الليلية لهم، فهي حكاية أخرى لا تقال ولا تكتب!

[email protected]