ما هي المشكلة؟

TT

يتساءل المواطن العربي اليوم عن الذي يحدث في مختلف بلدان لغة الضاد، وأين تكمن المشكلة التي تتخذ مظاهر مختلفة ولكن نتيجتها واحدة وهي الحياة القلقة، والمربكة وغير المستقرة للمواطن، ومظاهر العنف، والقتل، والتوتر المشحون الدائم؟ ففي تونس والجزائر نشبت أعمال احتجاج راح ضحيتها العشرات تحت عناوين مختلفة من البطالة، وغلاء الأسعار، إلى الفساد، والحنق المتراكم ربما على ظواهر أخرى لم يأتِ أحد على ذكرها. وفي السودان ينسلخ جزء حيوي وأصيل من بلد حر ومستقل وعضو في الأمم المتحدة تحت مسمى «الاستفتاء» لتقرير المصير في سابقة خطيرة معقدة الأسباب والمقدمات التي قادت إلى هذه النتيجة الخطيرة التي قد تتخذ أبعادا أخرى في بلدان عربية عديدة، بينما تستمر في فلسطين استباحة لدماء العرب وحقوقهم، وحريتهم، وقتل متواصل للمدنيين منذ أكثر من 63 عاما على يد المخابرات والجيش والمستوطنين اليهود وصلت حد قتل الشيوخ وهم نيام في سرير نومهم حتى قبل التأكد من هويتهم. ويتم هدم منازل الفلسطينيين، وإزالة معالم مدنهم، ويستمر الحصار على المدنيين في غزة، بينما لا تتجاوز ردود فعل الغرب «المتحضر» حدود التعبير المكتوم عن «الانزعاج» لأعمال لو أن أي كيان آخر ارتكبها لهوجم وقوطع ووضع تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وفي بلدان عربية أخرى فحيح توترات طائفية، أو سياسية، كالعراق ومصر واليمن ولبنان، لا تبرح تطلّ بين الفينة والفينة كي يبقى قارب حياة المواطن العربي مضطربا بل وعلى وشك الغرق في دورة العنف البغيضة. وبين هذا وذاك يتنقل بعض الممسكين بزمام الأمور في عواصم غربية بحثا عن حلول لقضايا شعبهم التي لا تنبت حلولها إلا في تربتها التي ترتوي بمياه أنهارها وتنمو تحت شموسها الوهاجة، بينما تتنقل وزيرة الخارجية الأميركية في دول عربية مستقرة محرضة إياها على التورط في فتن إقليمية أشد وقعا وأعتى بأسا باسم المشاركة في فرض العقوبات على جارة ستظل باقية عندما يرحل الأعداء وذلك بهدف إذكاء نار المذهبية أكثر بين أبناء هذه البلدان تحت لافتة السنّة والشيعة في المنطقة، وبالتالي تمزيق استقرارها. وتدعي أن «بلادها واليمن يواجهان التهديد ذاته والتحديات ذاتها» بينما ترى في هدم فندق «شيبرد» التاريخي في القدس «أمرا مزعجا» ولم ترَ في القتل اليومي للمدنيين الفلسطينيين على يد أصدقائها من المستوطنين اليهود الذين تدعمهم حكومتها بالمال والسلاح حتى ما يزعجها.

وبينما يبدو الفرح والسرور على وجهها الباسم عند الحديث عن انفصال جنوب السودان، نرى أنها وحكومتها يقفون مكتوفي الأيدي أمام ابتلاع اليهود لأراضي الفلسطينيين، بل إن سياسة حكومتها طوال أكثر من 63 عاما هي حرمان الشعب الفلسطيني من الحرية وحق تقرير المصير والدولة الوطنية وتركه يعاني من حروب إسرائيل، وحصارها، وقمعها، والقتل اليومي المستمر.

وإذا كان قد أُدخل في أذهان البعض أن يسخر من نظرية المؤامرة، فإن المؤامرة لم تعد نظرية، بل لم يعد الأعداء بحاجة حتى إلى تجميل خططهم أو إلباس تنفيذها لبوسا تغري أو تضلل الناظرين، وذلك نتيجة ضعف الضحية إلى درجة لم يعد من الضروري، بالنسبة لهم، حتى إضاعة الوقت على إخراج المخططات ما دام الضحايا هم في حالة من اليأس والقنوط والعجز. لا بل إن هذا العجز يدفع بعض العرب إلى الاحتفاء علنا بمخططات أعدائهم التي تستهدفهم ذاتهم في النهاية، ولو بعد حين، وهو يبدو الآن وكأنه يستهدف إخوانهم فقط.

فما هي المشكلة؟ لماذا تحيق بنا كل هذه المخاطر والفتن والعنف والانقسام والانفصال؟ ما هو العمل كي نصنع لأولادنا مستقبلا مختلفا عما يشهدونه اليوم؟ كيف نحميهم من أعداء متغطرسين مدججين بالكراهية لنا كلنا من المحيط إلى الخليج؟

من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ أن نقرر أولا أن العرب جميعهم مستهدفون، وأن الفلسطينيين كانوا وما زالوا، منذ أكثر من ستين عاما ونيف، يقفون في خط الدفاع الأول عن هذه الأمة، وأنه لو وقف العرب جميعا معهم وقفة رجل واحد لتم درء استمرار وتقدم هذا المشروع من بلد إلى آخر. والأمر الثاني الذي يجب الاعتراف به منذ البداية هو أنه رغم هذا التهديد الأميركي العدواني المتواطئ مع إسرائيل الموجه ضدنا، والأدوات المعدّة للاستمرار به لا يمكن له أن يتقدم من بلد إلى آخر ما لم يجد أرضا خصبة للتقدم، أو على الأقل مجالا مفتوحا دون عوائق. ورغم تكرار هذا العدوان الأميركي الإسرائيلي في أزمان وأماكن مختلفة، فما زال العرب يقعون ضحية للعدوان ذاته والمخاطر ذاتها مما يشير إلى قصور في الرؤية أو الوسائل أو الأدوات المعدة للمواجهة. فبعد تنفيذ كل مخططات سايكس بيكو، ورغم إدراك الجميع أن التقسيمات التي حصلت لهذه الأمة كان الهدف الأول منها إضعافها بتمزيق صفوفها ودب روح الفرقة والانقسام بين أبنائها، ننتقل اليوم إلى مرحلة جديدة من تجزيء المجزأ وتقسيم المقسم بدق أسافين الفتنة بين أبناء أمة واحدة عاشوا معا منذ ما قبل التاريخ، ومع ذلك لا يخرج البعض منا من القمقم لينظر من علوُ ويقفز فوق كل هذه الحواجز الوهمية ويمسك بناصية إرادته وليدفن هذا العدوان الذي يستهدف وجودنا كلنا، ولنرث أوطاننا بجدارة ونورّثها لأبنائنا وأحفادنا أوطانا آمنة مستقرة مرفوعة الهامة.

انحسار الحياة الفكرية الحرة وتدهور التعليم يعني تراجع دور المثقفين، وبالتالي تقلص الرؤى أمام السياسيين، في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة الابتكارات والإنجازات والتقدم العلمي والتقني لدى من يستهدفنا. كما أن التحوّل المجتمعي من قبيلة وعائلة وقرية وحي إلى وطن كبير تعتلي المواطنية فيه قمة الهرم وتنضوي كل الاختلافات من أجل خدمة مصالح الوطن العليا بكل ما تحمله هذه الكلمة من شحنات حضارية وتاريخية وثقافية وسياسية وجغرافية، لم يحصل، بينما عملت بلدان العالم الأخرى على اختلاق العوامل التي تشد من أزر وحدتها وصفوفها وتكاتفت بلدان الأقاليم على خلق وحدات اقتصادية قوية تصمد في وجه المتغيرات، بينما أهمل العرب لغتهم المشتركة وقربهم الجغرافي وصلاتهم الحضارية والتاريخية وانكفأوا على كيانات ليست من صنع أيديهم لتقودهم اليوم إلى هويات مستمرة بالتشظي تحت مسميات مختلفة يخترعها المعتدون.

كما أن ما يشجع الأعداء على تحقيق عدوانهم بسهولة، أولئك الذين ما زالوا يراهنون على صداقة الغرب لهم؟! أو لم يروا أن أقوى دولة في العالم ورغم كلّ الأثمان الباهظة التي أعلنت عن دفعها لم تستطع أن تجمّد الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين ثلاثة أشهر؟ أوليس هذا بحدّ ذاته جرس إنذار لكلّ المراهنين على «صداقة» هذه القوة العظمى بأن تحالفها مع إسرائيل داعم ومستمر وأن عدوانهما لا يتوقف عند حدود فلسطين ولا جنوب السودان أو جنوب اليمن، ولا أقباط مصر، أو استقرار لبنان، ولا وحدة العراق، بل تمتد أساليبهم من استخدام الجيوش وشن الحروب إلى استخدام بعض القتلة والإرهابيين وحفنات صغيرة من الدولارات وبعض ضعاف النفوس والمهزومين والمتواطئين من الداخل. على أن القضية لا تكمن كلها في الاختراق أو التواطؤ، بل إن القصور أيضا ومحدودية الرؤية والقرار الخطأ في الزمان والمكان الخطأ وللأسباب الخطأ، كلها تقود إلى المآسي والتحديات التي يواجهها العرب اليوم في معظم أقطارهم.