الانتفاضة التونسية وتحديات منظومة الاستبداد

TT

من كان يتصور أن ينهار نظام الرئيس السابق بن علي بهذه السرعة التي فاقت كل التصورات؟ لكن الانتفاضة جعلت هذا الأمر ممكنا وقدمت درسا غير مسبوق في الإطاحة بنظام بوليسي من أعتى الأنظمة السياسية. ستصبح هذه الملحمة، التي سطرها الشعب التونسي بدماء شهدائه وإصراره على تحقيق طموحاته في التحرر، مرجعية تاريخية في أساليب التغيير، ملحمة كتبها الشعب في أقل من شهر، لكن الإنسانية ستحتاج إلى وقت طويل لفهمها واستيعابها. استطاع الرئيس بن علي، مستفيدا من تعقيدات اللحظة الأخيرة، أن يغادر البلاد ليلا، وترك وراءه جملة من الإشكالات القانونية والدستورية والتنظيمية تشكل بمجموعها منظومة من الاستبداد.

السؤال المثار الآن بقوة عند كل المتابعين للوضع في تونس: كيف يمكن تفكيك هذه المنظومة الاستبدادية؟ ذلك أن الإبقاء على هذه المنظومة سيعيد البلاد إلى المربع الأول. هل من الممكن أن تدار شؤون البلاد بالوجوه نفسها التي لم تكن فقط جزءا من السلطة التي أطيح بها، بل كانت عناصر أساسية وفاعلة فيها؟ هل من المعقول أن نسند رسالة التحول الديمقراطي إلى الذين كانوا من صانعي هذه المنظومة؟

القول إن الحكومة في عهد الرئيس السابق لم يكن لها وجود فعلي، وإن رئيس وزرائها كان نظيفا، قول متهافت. من أين جاءت هذه النظافة المزعومة، وهو الذي أشرف على قتل أبناء شعبه من المحتجين على المظالم الاجتماعية والسياسية بالرصاص الحي؟ ولو قلنا تجاوزا: إن رئيس الحكومة كان غير قادر على الاعتراض وإنه ما زال محكوما بالرعب والخوف اللذين عاش في ظلهما طيلة توليه فترة رئاسته للحكومة، فإن معالجته لمشكلات مرحلة ما بعد بن علي كانت معالجة مشبوهة ومدعاة لأكثر من تساؤل.. لماذا تم الاعتماد على الفصل السادس والخمسين من الدستور الذي يقوم على قاعدة الغياب المؤقت لرئيس الجمهورية؟ لم يكن هذا الخيار مجرد اجتهاد دستوري، لكنه كان الوجه الآخر للسياسة التي أقدم عليها الحزب الحاكم، المتمثلة في محاولة إشاعة أجواء احتفالية كاذبة إثر الخطاب الأخير الذي ألقاه رئيس الجمهورية المخلوع وإيهام الرأي العام بأن الرئيس قد فهم مطالب شعبه وأنه كان مخدوعا.

لم تفلح هذه الجهود، التي ساندها، بقوة، الإعلام المرئي الرسمي، في تراجع الشعب عن مطالبته برحيل الرئيس، بل نزل في مسيرات ضخمة في كل المدن الأخرى وأجبر الضغط الشعبي الرئيس السابق على الرحيل، وهنا انتقل الحزب الحاكم إلى الخطة الموالية، وتتمثل في إشاعة الفوضى بالبلاد وإيجاد حالة من الانفلات الأمني تصبح معها عودة الرئيس المخلوع أمرا واردا.. عندما فشلت هذه الخطة بفعل التعاون المثمر، بين لجان الحماية الشعبية، التي تكونت لحماية الأحياء من هذه الميليشيات الحزبية والجيش الوطني، اضطر رئيس المجلس الدستوري إلى المرور إلى الفصل السابع والخمسين وتسليم رئاسة الجمهورية إلى رئيس البرلمان، الذي كلف بدوره رئيس الحكومة السابق بتشكيل حكومة «وحدة وطنية».

ما معنى حكومة وحدة وطنية إذا كانت لا تشمل القوى الحقيقية الممثلة لكل الأحزاب السياسية ذات الثقل الشعبي الفعلي؟ هل ما زالت سياسة التخويف من الإسلاميين ناجعة وتجد تأييدا ضمنيا حتى من الأحزاب المعترف بها، التي همشها النظام السابق؟ فلقد ملأت هذه الأحزاب الدنيا صياحا وتظلما لما عانته من إقصاء وتهميش، فما بالها اليوم تقبل بنصف الحلول وتقبل بإقصاء وتهميش غيرها من الأحزاب؟ ما معنى حكومة وطنية إذا كانت منظمات المجتمع المدني مستثناة منها؟ ما معنى حكومة وحدة وطنية إذا كانت القوى الشبابية المحركة للانتفاضة غائبة عنها؟

إذا كان هرم السلطة يتجه الآن إلى إضفاء نوع من الديكور على الجهاز التنفيذي، فإن ذلك سيفرغ الحركة، التي انطلقت انتفاضة وانتهت إلى ثورة، من محتواها الحقيقي ويقتلها في مهدها. هناك خشية فعلية من الالتفاف عليها وإفراغها من زخمها فتخمد تدريجيا وتصبح غير قادرة على التصدي الفوري للمحافظة على المكاسب التي حققتها.

المحافظة على الإنجاز العظيم الذي حققه الشعب التونسي تتطلب وعيا حقيقيا بالصعوبات التي يمكن أن تواجهها عملية التحول الديمقراطي. الصعوبة الأولى تتمثل، بعد رحيل الرئيس بن علي، في الحزب الحاكم، الذي حاول أن يعرقل المسيرة أمنيا بخلق حالة من الفوضى والانفلات الأمني، لكن بعد أن تأكد أن نجاحه غير مؤكد على هذا المستوى، يعمل الآن على تأمين النجاح في المعركة السياسية، ومن السهل أن يكون له ذلك ما دام الدستور الذي يعطي أوسع الصلاحيات لرئيس الجمهورية لم يتغير، وكان من المفروض أن يكون هذا هو المطلب الأول للمحتجين بعد أن نجحوا في إسقاط رأس السلطة.

كان من المفروض أن يكون مطلبها الثاني حل المجالس التشريعية كلها: النيابي والدستوري والاستشاري، فليس من الممكن أن تتحول هذه المؤسسات التشريعية، التي أعطت الغطاء القانوني والتشريعي للاستبداد، أن تشرع للتحول الديمقراطي.

أما حل حزب التجمع الدستوري، الذي احتكر الحياة السياسية ووضع يده على كل المقدرات الاقتصادية للبلاد، فكان من المفروض أن يكون المطلب الثالث للانتفاضة. ماذا تعني انتخابات حرة عندما يدخل الحزب الحاكم الانتخابات المقبلة وهو يملك كل المزايا المادية التي حصل عليها خلال 23 سنة من الحكم، بل منذ الاستقلال الأول؟ التركيز الآن على عائلة أصهار الرئيس التي نهبت البلاد بالفعل، وهو حقيقة لا جدال فيها، لكن نخشى أن يكون الهدف من ذلك عند البعض التعمية على الأطراف الأخرى التي استفادت أكثر من هذه المزايا داخل الحزب الحاكم.

المطلب الرابع هو حل الجهاز الأمني، الذي يمسك حتى الآن بخيوط اللعبة كلها، وليس من المستبعد أن تكون البلاغات عن ملاحقة عناصر أمنية قديمة، تأتي في إطار هذا السعي الحثيث لإعطاء الحزب الحاكم وهرم السلطة التابع له وجها جديدا. من العبث أن نتصور أن القضاء على منظومة الاستبداد سيتم من دون ضغط شعبي متواصل ويقظة مستمرة لكل محاولات وأد هذه التجربة الفريدة من نوعها.

إذا كانت هذه المطالب لم تعد، للأسف، ممكنة، فلا أقل من أن يضع الذين صنعوا الانتفاضة خطا أحمر لا يمكن التنازل عنه، هو إشراك الأطراف كلها في صنع مستقبل تونس وإعلان عفو تشريعي عام ينهي المظالم السابقة كلها. إذا كانت مسيرة إسقاط المستبد قد أخذت في فصلها الحاسم من الشعب التونسي أقل من شهر، فإن القضاء على منظومة الاستبداد يستدعي وقتا أطول ويستدعي خاصة يقظة دائمة من الجميع.

* أستاذ في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس