التونسة

TT

هرب بن علي من تونس، وسقط من الحكم نتاج ثورة شعبية عارمة بدأت من نقطة تحول تمثلت في شاب اسمه محمد البوعزيزي، أحرق نفسه احتجاجا على مصادرة المسؤولين في بلدية سيدي بوزيد عربة الخضار التي كان يسترزق منها وهو العاطل الجامعي لمدة أربع سنوات. كانت هذه الـ«Tipping point» التي ولدت الغضب الشعبي الجارف في كل المدن والقرى التونسية، وفتحت كافة الملفات بلا خوف ولا تحفظ. فمطلب العمل، والاحتجاج على البطالة، وغلاء الأسعار تحول إلى التنديد بالاستبداد والفساد، والتظاهر لفضح المستبدين من رموز السلطة، والمطالبة بخروج الرئيس نفسه وأسرته المستبدة والفاسدة.

تابع الناس ما يحدث في تونس بعيون مفتوحة وأفواه تتساقط من الذهول، لقطات أشبه بفيلم سينمائي مستحيل ساهمت في توصيلها للناس كل وسائل الاتصال التي سعى نظام بن علي وبقوة إلى بقائها محظورة على التوانسة.

مشاهد المظاهرات الرهيبة، والشعارات الواضحة، والمواجهات الدموية القمعية مع عناصر حرس النظام، كل هذا الحراك تحول إلى ثورة شعبية كاملة شلت البلاد، وكان مطلبها واحدا وثابتا، هو خروج الحاكم الطاغي الذي ألقى ثلاثة خطابات متلاحقة كان آخرها يبدو فيها هزيلا ضعيفا مهزوزا يستجدي شعبه بكلمات غير قابلة للتصديق ولا الاحترام.

غريب! كيف تستطيع الشعوب (أو تجبر) على تصنع المحبة والاحترام لزعماء حرموها من الإحساس بالأمان والعيش بكرامة؟ في يوم وليلة انقلب الحال، وظهر الغضب، وخرج الشعور الحقيقي الكامن في القلوب، والذي لم تستطع كبته أرتال من الرصاص ولا ثكنات الجنود المدججة بالسلاح.

المذهل أن هذا الغضب المنفجر جاء من أحد أكثر الشعوب العربية لطفا ووداعة وثقافة، ولكنها الكرامة إن كسرت، والحليم إذا غضب، حذار منهما.

لم تكن الثورة التونسية مسيّسة من الخارج، ولا جاءت على دبابات القوات الأجنبية، ولا رفعت شعارات دينية متطرفة، ولكن جاءت من الناس وبالناس، وبصورة عفوية وتلقائية، ولذلك كانت صادقة. انطلقت من حناجر دعوة مظلوم وبسيط أهينت كرامته، وجاء رد الله في صورة آية من آياته، ونزع الملك من الحاكم في مشهد عظيم. سبحانه مالك الملك.

لجأ التونسيون إلى الدستور وبحذافير الدستور وبنود الدستور وطالبوا بتطبيقه، ونزل الجيش إلى الساحة لحماية الناس ولم ينزل للاستيلاء على الحكم (بالرغم من كون الجيش وقائده رئيس القوات من يسيطرون على الوضع فعليا في البلاد، وهم الذين أجبروا بن علي على الرحيل لأنهم رفضوا إطلاق النار على الناس) إلا أنهم عرفوا حدود دورهم، ويساهمون الآن في تطبيق الأمن، والمساعدة على إرساء مبادئ التحول السلمي للسلطات بحسب بنود الدستور الحرفية.

طبعا هناك دروس مما حصل في تونس، دروس مهولة لمن يتعظ، كرامة العيش وتأمين فرص الرزق والإحساس بالأمان هي أسس لتكوين المواطن الحر الذي وقتها سيكون بإمكانه الإحساس بالانتماء، فالمواطنة ليست شعارات فارغة ولا معاني وأغاني يتم ترديدها، ولكنها ميثاق شرف مشترك بين الدولة والمواطن ومتى اختلت إحدى الكفتين اختلت العلاقة بين الطرفين.

كان الساسة العرب مشغولين في السابق بشعارات اللبننة والعورقة والسودنة والصوملة، أعتقد جازما أن شعار المرحلة الحالية هو التونسة، وهو سيناريو قابل للتكرار إذا لم يتم الاستفادة الكاملة واستيعاب ما حدث في تونس جيدا.

بارك الله في تونس وشعبها وحماها.