تونس وتغيير التغيير

TT

يكفي أن يكون ما حدث في تونس هو نتاج حراك شعبي شبابي، حتى يستحق الاحترام والتقدير. فهذه الحقيقة على أهميتها تحمل وجها آخر، مفاده أن غالبية النخب هي التي تبعت الشعب واستثمرت قراره الحاسم في تغيير التغيير، وليس العكس.

وهذا يعني صراحة أن الشعب التونسي حاليا هو الفيصل، وهو الحاكم الحقيقي، وأن كل النخب السياسية والثقافية سواسية، وكلها مجبورة اليوم - سواء التي تطابقت خياراتها مع إرادة الشعب بإطاحة الرئيس، أو غيرها - مجبورة على احترام إرادته والتمعن في رسائلها وفي دلالاتها.

طبعا ليس الغرض من التلويح بهذه الإشارة نفي معاناة الكثير من الشخصيات التونسية رجالا ونساء في السنوات الأخيرة من أجل تفعيل الديمقراطية السياسية، ولكن هم أنفسهم يعترفون بأن المضايقات التي عرفوها قد منعتهم من أداء دورهم، ومن التغلغل في أعماق الشعب، وهو ما يفسر الاعتراف المسؤول، الذي أبداه البعض منهم بالتذكير بأن الثورة التي حصلت في تونس، التي صدمت إيجابيا الجميع، هي بإمضاء دماء شباب تونس وشعبها الذين وفروا لها اليوم الفرصة لإظهار قدرتها على إقناع الشعب لا النخبة فقط بطروحاتهم.

إن هذا المعطى مهم جدا أن يكون قوي الحضور في أذهان جميع الأطراف التي ستشارك في الحياة السياسية في تونس. فكلها على قدم المساواة، وكلها في خدمة شعب هو من صنع تغيير التغيير. فهو معطى سيُحصن جميع الأطراف القائمة والأخرى التي ستضاف إلى القائمة، باعتبار أن الحرية السياسية تفرض ذلك، ضد المزايدات والتراشق.

بل إن الشعب نفسه هو الذي يتولى، منذ اليوم الأول من مغادرة بن علي البلاد، أمن الأحياء السكانية التي تعرضت للنهب ولاحتراق المراكز التجارية والمالية. شعب وجد نفسه معزولا ساعات طويلة، وعصابات منظمة في سيارات، ومسلحة تقتحم البيوت وتحرق المرافق.

لذلك فإن هذه العصابات، التي أسهمت في الإطاحة، من حيث تدري أو لا تدري، قد خلقت البلبلة والارتباك اللذين أديا إلى نتيجة مثيرة للاستغراب، وهي أن جهاز الدولة التونسي، المعروف بالقبضة الأمنية وبريادته في مجال مكافحة الإرهاب، فشل في السيطرة الأمنية، مما قد نفهم منه أن الحراك الشعبي، وإن كان بكل تأكيد أقوى عوامل الإطاحة برأس النظام، إلا أن ما حدث هو نتاج تشابك الشعبي والعفوي، وأيضا الدور الذي لعبته جماعات التخريب المنظمة، التي أظهرت هشاشة النظام وسرعت عملية الإطاحة. وهو ما قد يفسر لنا قليلا تلك السرعة الجنونية التي حصلت بها الأحداث والتي فاجأت الجميع.

لا شك في أن الانفلات الأمني والعصابات لم يفسحوا المجال للشعب التونسي كي يعيش فرحة تغيير التغيير، وكذلك، وهذا الأهم، الانتقال إلى المرحلة الجديدة التي تبقى مفتوحة على سيناريوهات كثيرة؛ فالحرية السياسية تقتضي مشاركة جميع الأطياف في الانتخابات بما فيها حركة النهضة، ويجب ألا نكون من السذاجة كي نتصور أن الولايات المتحدة وفرنسا ستراقبان من بعيد شجاعة الشعب التونسي وتعبيره عن كرامته، بل إن الأخطر من هذا أن التربة السلفية في المجتمع التونسي مهيأة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يعني أن الشعبية التي سيلقاها الإسلام السياسي كبيرة، وربما تقلب الطاولة على النخبة الحداثية التي لطالما طالب البعض منها بالمحافظة على قيم اللائكية.

فالباب مشرع أمام كل التوقعات، ولا أحد يستطيع أن يجزم بالسيناريو المقبل. فليس فقط ملفات الفساد والتشغيل والحريات العامة مهمة وعاجلة، وإنما مكاسب الدولة الوطنية في مجال التحديث (على رأسها مكاسب المرأة) على امتداد أكثر من نصف قرن، التي أصبحت اليوم أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى الذود عنها، وهي، حسب اعتقادنا، مهمة الأحزاب السياسية التي ستعيش امتحان التنافس مع حزب النهضة في قلب الشارع التونسي، الذي لن يتخلى عن إرادته بعد هذه التجربة.

فإلى حد الساعة مكاسب التحديث في الظاهر تحظى بالإجماع؛ فهل ستبقى كذلك؟