البطالة: أم المصائب في سوق العمل الخليجي

TT

تحدثنا في المقال السابق تحت العنوان العام لسوق العمل الخليجي عن نظام الكفيل، الذي يتحكم في العلاقة بين صاحب العمل المحلي والعامل الوافد، وكيف أنه يعتبر من أشد وأكره التشوهات التي يعاني منها هذا السوق، وأنه يضع حكومات الخليج تحت المجهر الحقوقي العالمي، بالإضافة إلى مضاره على السوق نفسه. كما أشرنا إلى الخطوات التي اتخذتها بعض دول المنطقة وفي مقدمتها مملكة البحرين لتجاوز هذه الممارسة المضرة اقتصاديا واجتماعيا. واليوم سنتحدث عن البطالة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وماهيتها وضرورة التصدي لها.

* تمهيد:

* تعرف منظمة العمل الدولية التي تتخذ من جنيف مقرا لها العاطل عن العمل بأنه: «الشخص القادر على العمل، ويرغب فيه، ويبحث عنه ضمن الأجر السائد». وتتفق منظمة العمل العربية مع نظيرتها الدولية في التعريف، وهو ما تأخذ به معظم دول العالم بما في ذلك الدول العربية المنضوية كلها تحت مظلة المنظمتين بحكم عضويتها في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.

وتعاني الدول العربية قاطبة من زيادة ظاهرة البطالة، وإن تفاوتت في نسبها، إذ تتراوح بين أقل من 4% كما هو الحال في البحرين وقطر والإمارات والكويت، و50% كما هو الحال في قطاع غزة. وفيما بين هاتين النسبتين تعاني الدول العربية من نسب بطالة أعلى من نظيرتها في أقاليم العالم الأخرى، وتزداد النسبة بشكل رهيب في أوساط الشباب ما بين السن السادسة عشرة والثلاثين عاما. فبينما يصل معدل البطالة في العالم العربي عموما إلى 15%، فإن نسبة الشباب من هؤلاء تصل إلى 30% «وربما» أكثر.

* إحصائيات وأرقام تناقضها:

* قلت «ربما» لأن الأرقام تختلف مع ما تعلنه الجهات الرسمية من معدلات بطالة متدنية لأهداف سياسية واجتماعية، حيث إن قوى المعارضة وبعض الجهات الدولية كمنظمة العمل الدولية والبنك الدولي تميل إلى نسب أعلى بكثير مما تعترف به الحكومات. والسبب الرئيسي لهذا الاختلاف هو غياب آليات علمية منهجية معتمدة عالميا لقياس عدد الباحثين عن عمل. والآليات كثيرة كالمسوحات والاستبانات، إلا أن أفضل آلية هي توافر نظام للتأمين على التعطل يعتمد آلية لقياس أعداد العاطلين المستفيدين من النظام. ومن هنا فإن الوضع في أوروبا وشمال أميركا واليابان وأستراليا وبعض الدول المتقدمة الأخرى أكثر وضوحا وشفافية، لأنها تأخذ بنظام التأمين ضد التعطل. في هذا النظام يقدم كل باحث عن عمل - سواء كان متعطلا عن وظيفته أو باحثا حديث الدخول لسوق العمل - على تسجيل اسمه للحصول على معونة التعطل التي توقف عنه بعد حصوله على الوظيفة أو رفضه لعدد من الوظائف وفقدانه أحد الشروط التي تعرف العاطل عن عمل. وبالتالي فالدولة تستطيع رصد حركة البطالة بدقة عالية، ولا تستطيع أي جهة، سواء أكانت أحزاب معارضة أو منظمات دولية التشكيك في ما تعلنه الحكومة.

أما عندنا في العالم العربي فالوضع يختلف مع الأسف. فباستثناء مملكة البحرين التي طبقت نظام التأمين ضد التعطل حسب القانون رقم 78 لسنة 2006 تحت إشراف وتعاون منظمة العمل الدولية، فإن الدول العربية لا تملك آلية واضحة وشفافة تستطيع من خلالها الجزم بعدد الباحثين عن عمل.

هناك أنظمة في بعض الدول العربية كالجزائر ولبنان وغيرهما لديها نظام لدفع معونات لمن يفقد وظيفته من المؤمن عليهم في هيئات التقاعد والضمان الاجتماعي، لكنها لا تقدم نفس المساعدة للداخلين الجدد للسوق، بينما هم في الواقع يمثلون السواد الأعظم من أعداد العاطلين.

* أم المصائب:

* والبطالة هي أم المصائب وأساس عتيد لها، فخسائرها كبيرة كبيرة، وآثارها السلبية موحشة موحشة. إن الأمم المتقدمة تعتمد أساسا على مواردها البشرية التي لا تنضب كوقود أساسي لتطورها وازدهارها، وأي تعطيل لهذه الثروة يكلف اقتصادها كثيرا. والأمر يزداد خطورة على الاقتصاد إذا كانت البلاد لا تملك ثروات طبيعية كبيرة ذات عمر مديد. ونرى دولا من أقصى الشرق كاليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية إلى أقصى الغرب كبلجيكا والسويد ليست لديها موارد طبيعية كبيرة لذا فإنها تعتمد في نموها وتطورها على تنمية واستغلال مواردها البشرية. وحتى الدول التي لديها موارد طبيعية وفيرة فإن عدم استغلال مواردها البشرية يعني تضييعا لمواردها الطبيعية من قبل جيل أو جيلين على حساب الأجيال القادمة!!

أما آثار البطالة فلا تحتاج إلى سرد، فهي اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية ونفسية. ويكفي أن نتابع الأخبار القادمة من شمال أفريقيا وأقاليم أخرى لنعرف الآثار المدمرة للبطالة. فالبطالة تصيب عصب المجتمع أي الشباب في مقتل، وتلبسهم بالإحباط، وتجعلهم فريسة للصراع السياسي والتفكك الاجتماعي، وأداة للتدمير وزعزعة الأمن، وبالتالي فإنها الوقود لكل المصائب التي تحل بالمجتمعات. ولن أدعي القدرة في هذه العجالة للبحث عن الحلول. فالحلول ليست في أيدي وزراء العمل (والتشغيل)، بل هي في يد الدولة ككل، فالدولة هي التي تدير الاقتصاد لخلق الوظائف وتنويعها، وهي التي تدير عملية التعليم والتدريب لتوفير مخرجات تناسب هذه الوظائف ضمن منظومة عالمية تهيمن عليها قوى السوق العالمي. فما عادت أي منطقة جغرافية جزيرة معزولة عن العالم، وما عادت أي دولة قادرة على التحليق خارج سرب العولمة الاقتصادية. والأهم طبعا في هذا السياق ما عادت أي حكومة قادرة على إخفاء حجم المشكلة، وإن تكررت وتفننت في المحاولات.

العاطلون في العالم العربي يزيدون على 30 مليون شاب وشابة تعطلت عقولهم وسواعدهم، فهاجت مشاعرهم ومطالبهم. وقد حاولت القيام بمبادرة بعد انتخابي رئيسا لمجلس إدارة منظمة العمل العربية والتي تضم وزراء العمل والغرف التجارية والصناعية والزراعية والمنظمات والاتحادات العمالية في 22 دولة عربية - مبادرة من أجل التخفيف من غول البطالة في العالم العربي - لكنني منذ اختياري في مطلع عام 2010 لم أوفق لحد الآن أن أتحرك قيد أنملة. في عام 2009 عقدت القمة العربية الاقتصادية في دولة الكويت، وقررت تخصيص محفظة بمقدار ملياري دولار لتنفيذ ما أطلق عليه العقد العربي للتوظيف، ومن أهم أهداف الخطة تخفيض معدل البطالة في العالم العربي خلال عشر سنوات من 15% إلى 7%.

اقترحت أن تقوم منظمة العمل العربية بالتعاون مع وزراء العمل ورجال الأعمال والمنظمات العمالية بإقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة لخلق فرص عمل للشباب العربي. واخترت ست دول كمشروع تجريبي هي فلسطين والأردن واليمن والسودان والمغرب وتونس لإقامة مشاريع وخلق 60 ألف وظيفة. ورغم أن المحفظة بها الآن مليار ومائتا ألف دولار، فإن تعقيدات العمل العربي الجماعي وبيروقراطية الصناديق الإنمائية لا زالت عائقا أمام التقدم خطوة واحدة. وقد اشتكيت هذه التعقيدات إلى صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح عندما التقيت سموه في الكويت في نوفمبر الماضي وبصفته رئيسا للقمة الاقتصادية من بطء التجاوب. والموضوع يحتاج لحديث مطول آخر.

* البطالة في الخليج:

* عنوان غريب بالطبع. كيف تكون هناك بطالة في دول مجلس التعاون الخليجي وهي التي تتعاقد مع 15 مليونا من الدول الأخرى - معظمهم من جنوب شرق آسيا - وبعقود عمل مؤقتة لتسيير اقتصاداتها؟! نعم، عزيزي القارئ هناك بطالة في دول الخليج، وإن تفاوتت في نسبها وأسبابها عن باقي الدول العربية. هناك نوع من البطالة يسمى البطالة عندنا الهيكلية، وتعني أن مخرجات التعليم، أي الباحثين عن عمل، لا تتناسب معارفهم ومهاراتهم مع متطلبات سوق العمل، أي الوظائف التي يخلقها الاقتصاد.

وزير العمل في دولنا يقف حائرا بين وظائف ينتجها النمو والحركة في الاقتصاد لا دخل له في ماهيتها، وعاطلين عن العمل ذوي إمكانيات لا دخل له في كينونتها أو تكوينها. فلا هو مسؤول عن الاقتصاد وما يعرضه السوق من فرص عمل، ولا هو مسؤول عن تعليم الباحثين عن عمل، لكنه مطالب بأن يزاوج بينهما!!

لقد أدت الطفرة في أسعار النفط ومنذ منتصف سبعينات القرن الماضي لحملة من الإنشاءات والتعمير في دول الخليج احتاجت لجلب الملايين من العمالة الأجنبية لشح الموارد البشرية، لكن المنوال تواصل، واستقرت بوصلة التنمية الاقتصادية الخليجية مع الأسف على البناء ثم البناء ثم البناء، وهو ما يحتاج لعمالة مكثفة رخيصة الثمن تجلب معظمها من دول شبه القارة الهندية، والنتيجة أن قذفت مؤسسات التعليم الأساسي والجامعي بمئات الألوف من أبناء دول الخليج إلى أتون سوق يعتمد على عمالة رخيصة وظروف عمل وسكن متدنية رفضها أبناء المنطقة. ورغم أن الأرقام متواضعة والنسب لا تقارن بالدول العربية الأخرى، فإن في الخليج بطالة أساسها سوء التنسيق بين الاقتصاد والتعليم، بالإضافة لأعراف اجتماعية ناشئة وليست أصيلة لدى بعض الشباب الخليجي بالاستنكاف عن العمل في قطاعات الإنشاءات والخدمات والضيافة وتجارة التجزئة.

وتختلف الدول الخليجية في نسب البطالة، فبينما تراوح في دول كالبحرين والإمارات وقطر والكويت إلى ما دون 4%، تصل إلى أكثر من 10% في كل من عمان والمملكة العربية السعودية. وهناك عنصران آخران يضاعفان من مرارة البطالة في دول الخليج، أولهما وجود الملايين من الأجانب وهو عامل استفزازي للمواطن العاطل، وثانيهما غياب نظام حماية اجتماعية للعاطلين. وإلى جانب خسارة هذه الموارد البشرية وتعطلها عن المساهمة في الحياة الاقتصادية، وتلك خسارة كبرى، فإن بعض الأعراف الاجتماعية وأساليب المعيشة المتوافرة في دول الخليج تؤدي إلى حالة من الاغتراب لدى المواطن الخليجي العاطل، قد تؤدي إلى مشكلات اجتماعية وسياسية على المدى المتوسط قبل البعيد.

لقد شرعنا في مملكة البحرين ومنذ ثماني سنوات في تحديد مواقع الخلل ووضع خطط متعددة وسن قوانين جريئة لمواجهة البطالة التي كانت تتجاوز 15% حتى 2005. وأجرينا مسحا ميدانيا بإشراف مباشر من خبراء منظمة العمل الدولية لتحديد نسبة البطالة، ثم أطلقنا مشروعا طموحا خصص له 80 مليون دولار لتدريب وتوظيف العاطلين، وأشركنا مختلف شرائح المجتمع من مفكرين وعلماء دين ورجال أعمال ونقابات عمالية وجمعيات المجتمع المدني المتخصصة وأعضاء مجلسي الشورى والنواب والدوائر الحكومية والأهلية في حملة وطنية كبيرة، واستطعنا بتوفيق من الله سبحانه ودعم مادي وسياسي متواصل من جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة أن نكسر ظهر البطالة، حيث تم تدريب وتوظيف الآلاف من شباب الوطن في القطاعين العام والخاص، ومنذ ثلاث سنوات إلى اليوم تتراوح نسبة العاطلين ما بين 3.5 في المائة و4 في المائة. ونظرا لأننا اعتمدنا نظام التأمين ضد التعطل فإن أرقامنا شبه مؤكدة لا يعترض عليها أحد سواء منظمات عالمية أو فعاليات معارضة. وقد كانت البطالة في البحرين مصدرا للكثير من الأزمات الاجتماعية والسياسية على مدى عشرين عاما، وكانت قميصا يرفعه المعارضون (وكنت منهم) في وجه الحكومة، لكنها أصبحت اليوم في خبر كان، وأصبح الإنجاز مصدر فخر للجميع، حتى ذكرت منظمة العمل الدولية في تقرير شامل أصدرته في أبريل (نيسان) 2009 عن الأزمة الاقتصادية وأثرها في ازدياد معدلات البطالة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن البحرين هي الدولة العربية الوحيدة التي لديها من القوانين والأدوات الإدارية ما هو قادر على استيعاب تأثير الأزمة على ظاهرة البطالة.

ومن جهة أخرى فقد أطلقت سلطنة عمان مشروع «سند» الذي استطاعت من خلاله تحويل الآلاف من أبناء السلطنة من شباب عاطل إلى ملاك للمحلات التجارية وشركاء في إدارتها وتشغيلها.

ولا يمكن أن ننسى جهود المرحوم الدكتور غازي القصيبي لسعودة الكثير من القطاعات الصناعية والتجارية في المملكة العربية السعودية، والحد من ازدياد ظاهرة البطالة فيها، وهي جهود تعرضت لمقاومة شديدة من رجال الأعمال، وفي ما يخص تشغيل المرأة من بعض علماء الدين، وهي جهود تحتاج للمواصلة للمضي قدما في توفير فرص العمل الكريمة للمواطن السعودي.

برامج التوطين، أي توظيف المواطنين وإحلالهم في شواغر القطاعين العام والخاص كثيرة ونشطة في كل من الدول الخليجية الثلاث الأخرى، مع أن أزمة البطالة لديها ليست بنفس الحدية والحساسية لدى السعودية وعمان، لكنها موجودة وإن بدرجات متفاوتة، وهي تضيف عبئا آخر على وزراء العمل في دول الخليج قاطبة، وهم مشغولون بدرجة كبيرة بإدارة شؤون الملايين من العمالة الوافدة التي تتحول رويدا رويدا إلى وفادة وإقامة دائمة تحمل في جعبتها أخطار هائلة جدا على مستقبل المنطقة، وهذا هو موضوع حديثنا القادم إن شاء الله.

* وزير العمل

في مملكة البحرين