«ثورة الياسمين» التونسية ربما لا تثمر ديمقراطية

TT

باريس - تعتبر المظاهرات العنيفة، التي تعقبها الإطاحة بحاكم ديكتاتور، واحدة من السبل النشطة لإقرار الديمقراطية بمجتمع يسوده الاستبداد، لكنها مع ذلك ليست السبيل الأمثل لتحقيق ذلك.

مع مشاهدتي لتشكل ملامح «ثورة الياسمين» في تونس، تذكرت أن مظاهرات الشوارع جاءت على نحو غير متوقع بالمتطرفين إلى السلطة، مثلما فعلت في إيران عام 1979. وبمقدور المظاهرات خلق توقعات غير واقعية، مثلما فعلت «الثورة البرتقالية» التي انطلقت في أوكرانيا عام 2004. وقد تنتهي على نحو سيئ بوقوع أعمال عنف قوية، مثلما حدث في مظاهرات ميدان تيانامين.

في المقابل، نجد أن أغلب حالات التحول إلى الديمقراطية تفتقر إلى الطابع الدرامي. مثلا، نجد إسبانيا في أعقاب وفاة فرانكو، وتشيلي بعد استقالة بينوشيه، وبولندا التي تفاوضت حول السبيل للخروج من الشيوعية.. لقد مرت جميع هذه التحركات الانتقالية في هدوء وبطء، من دون خلق كثير من الصور الأخاذة، وأثمرت في النهاية أنظمة سياسية مستقرة.

إلا أن جميع هذه الجهود أصبحت ممكنة لوجود قادة استبداديين أدركوا أن اللعبة انتهت أو، مثل فرانكو، تميزوا بحسن بصيرة جعلهم يتوفون من تلقاء أنفسهم، غير أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، المقيم حاليا في السعودية، افتقر إلى هذا النمط من البصيرة النافذة. بدلا من ذلك، قام بخلق أحزاب معارضة وبرلمان زائفين، وأسس نظاما استبداديا يسيطر على شبكة الإنترنت ويشن هجوما قاسيا ضد المنشقين من حين لآخر لبث الخوف في نفوس الجميع. وأخبرني صديق فرنسي، كان في تونس منذ أسابيع قليلة، أن الصحف طرحت صورا شديدة الإيجابية عن الرئيس كما لو أن مقالاتها كتبت بيد والدته!

ومع ذلك، فإن موجات الغضب، التي تفجرت مؤخرا في تونس، لم تكن متوقعة فحسب، وإنما أعلن البعض عن توقعه إياها بالفعل. كنت في زيارة قصيرة لتونس منذ 3 سنوات، ولم يتحدث الناس سوى عن الأعداد الهائلة من الشباب المتعلم العاطل عن العمل. واعتقد البعض أن هذه الأعداد ستتحول لموجات من الهجرة، بينما ساور القلق البعض من انجذابهم إلى الإسلام الراديكالي، وخشي الكثيرون من أن تتسبب الفوضى في العراق لتقويض حلم الديمقراطية في النفوس.

ومنذ شهر، خرج الناس هناك في مظاهرات غاضبة. حتى الآن، لا تحمل هذه الثورة طابعا إسلاميا، لكنها ليست ثورة ديمقراطية بعدُ أيضا. وإنما ما نشهده الآن ثورة ديموغرافية يقودها شباب محبط ضد قادة فاسدين. وكان بإمكان أي شخص ينظر إلى بيانات أعداد السكان والبطالة توقع حدوث هذا الأمر، وقد توقعه الكثيرون بالفعل.

لكن لو كان الأمر بهذا الوضوح، فلماذا لم يتم توقعه وإدارته والتعبير عنه عبر الانتخابات؟ ولو كان هذا الأمر قد تحقق في تشيلي، فما الذي يمنع تحققه في تونس؟ من الواضح أن بن علي وأسرته كانوا على درجة مفرطة من الشعور بالارتياح والطمأنينة والثراء. على خلاف الحال مع الإسبان والبولنديين، لم يكن بن علي في قارة من الأنظمة الديمقراطية، كما منحته الحرب ضد الإرهاب سبيلا لتبرير استبداده.. وكحليف في الحرب ضد الإسلام الراديكالي، نجح ببراعة في تجنب الضغوط الأميركية.

لكن الأميركيين لا يحملون أهمية كبيرة في تونس، التي عمدت فرنسا - القوة الاستعمارية السابقة بها والمستثمر الأكبر - إلى تدليل ودعم بن علي لعقود، ماديا وآيديولوجيا. وعلى الرغم من أن فرنسا القرن الـ18 هي التي طورت فكرة الديمقراطية، فإن المعلقين الفرنسيين المعاصرين طوروا فلسفة يمكن وصفها بمناهضة الديمقراطية. فمثلا، رفض معلق في «لو فيغارو» الأميركيين وإيمانهم الساذج بـ«الترويج للديمقراطية»، وكتب يقول الأسبوع الماضي: إن جميع الأمم «لها حق في تاريخها» أهم من «حقها في الديمقراطية».

وفي إطار هذه المدرسة الفكرية، كان بن علي نموذجا للديكتاتور.. فقد دافع عن حقوق المرأة وعن حصول الطبقة الوسطى على التعليم ومنع الإسلاميين المتطرفين من الوصول إلى السلطة، وكان ذلك كافيا. وصرح الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، يوما قائلا: «أهم حقوق الإنسان هي المأكل والخدمة الصحية والتعليم والمسكن». لكنه أنهى قوله بأن تونس يعتبر بلدا «متقدما للغاية» طبقا لهذا المعيار. ومن الواضح أن بن علي أصبح يؤمن بذلك هو الآخر، وبدأ يتشدق بخطابه الزائف عن «الإصلاح». في هذه الأثناء خلقت حاشيته الفاسدة، التي يذهب الكثير منها إلى فرنسا في عطلات نهاية الأسبوع ويقيمون، في فندق بجانب ديزني لاند في باريس، مجتمعا راكدا متبلدا لا يوجد للشباب المتعلم والشابات المرتديات للجينز فرص تذكر للنجاح. وبدأت هذه المظاهرات بانتحار درامي على الملأ لخريج جامعي شاب يبلغ من العمر 26 عاما لم يستطع أن يجني رزقه من خلال عمله كبائع متجول بشكل غير قانوني. وسرعان ما اشتعلت التظاهرات لتعاطف الكثير من الشباب مع مأساته.

وكان هذا مفاجئا بالنسبة للفرنسيين وللنخبة التونسية. فلولا أنهم لم يفاجأوا ولو أنهم لم يضللوا من قبل الفكر المناهض للديكتاتورية والحديث عن الديكتاتورية الكريمة المتسامحة لكنا قد شهدنا انتقالا سلميا منظما للسلطة في تونس عوضا عن أعمال الشغب. يسعدني أن أؤيد رحيل بن علي ويحدوني الأمل في أن تأتي الحكومة المقبلة للتونسيين بالمزيد من الحرية والرخاء. وليتني كنت أكثر ثقة في أنها ستفعل.

* خدمة «واشنطن بوست»