عسلامة.. برشا!

TT

علماء السياسة والتاريخ يحاولون وضع توصيف دقيق ومنصف لما حصل في تونس تحديدا. فهل هو ثورة أم انتفاضة؟ أو فوضى وعبث؟ كنت أتابع في الأيام التي مضت، مثل الكثيرين غيري، توابع زلزال ما حدث في تونس، فأقرأ ما أستطيع، وأتابع على الإخباريات الفضائيات ما يمكن، ولفت نظري تعليق صادر من رئيس تحرير صحيفة عربية يومية تصدر من لندن معروف عنه مواقفه الجدلية وتصريحاته المتحمسة، وهو يقول معلقا عما حدث في تونس، إنه يتوقع أن تتكرر ثورة تونس في مواقع أخرى من العالم العربي، لتكون نقطة تحول كبرى، مثلها مثل ثورة يوليو في مصر عام 1952، التي، بحسب وصفه، تبعتها ثورات أخرى سادت العالم العربي. والحقيقة أن هذا وصف مفزع ومخادع، فما حدث في مصر كان انقلابا عسكريا بامتياز جاء بشلة من الضباط ليكمموا أفواه الشعب ويصادروا حرياته ويؤمموا ممتلكاته، وأما عن نشر مبادئ هذه الثورة للعالم العربي، فنحن إلى اليوم لا نزال ندفع ثمنها أضعافا مضاعفة، حيث أسست فكرا للاستبداد وثقافة إهانة المواطن، وعبر أدوات السجون السرية والمباحث والاستخبارات أوجدت المواطن الخنوع الضعيف الفاقد للثقة والقابل للفساد.

ما حدث في مصر لم يكن ثورة، مهما حاولت الأبواق المستفيدة من ذلك الوضع القاسي الترويج بغير ذلك، فما حدث وقتها لم يكن للناس ولا الشعوب أي قول أو أي دور فيه، وما حصل كان «سرقة» أصواتهم من دون علمهم وتجييرها لأنظمة الحكم العسكرية. وبالتالي الذي صنع «الثورة» في تونس كان الشباب العاطل عن العمل، الشباب الفاقد للأمل، الشباب المهان كرامته، الشباب الخائف على حريته، فانتفض لأن العلة كبيرة والجسد عليل، تداعى للنداء كل أطياف المجتمع بشكل عفوي وصادق وفوري، وسقط الحاكم في ثلاثة أسابيع قياسية، مثبتا أن النظام الذي كان يحصن نفسه ضد الجيران وضد التطرف الديني وغيرها من التهديدات، جاء أمر الله عليه من الداخل نفسه ومن حيث لم يكن يتوقع ذلك أبدا.

بن علي، الرئيس التونسي المخلوع، أعد نظاما استخباراتيا قمعيا مرعبا، طبقات من الرقابة حتى تصل «للأمن الرئاسي»، ذلك الجهاز المرعب الذي لا علاقة له بالدولة، سوى بالرئيس مباشرة والمعد بأهم وأحدث الأسلحة، وعلى درجة هائلة من الجهوزية، غرضه الأهم هو الدفاع عن الرئيس وأسرته بشتى وكل الأثمان، وهو ما شاهده الناس بعد هروب بن علي، متذكرين مشاهد سقوط صدام حسين وهروب عائلته، وكذلك مشاهد سقوط الطاغية الروماني تشاوشسكو. ووسط هذا الزحام الأمني والهيجان والفوضى العسكرية سقط في الأسر المؤقت عشرون سائحا من السويد (ونالوا ضربا مبرحا) كانوا قد جاءوا للصيد، وهي الهواية التي عرفت بها تونس، وظن العسكر أنهم ميليشيات مأجورة دخلت لمساعدة الأمن الرئاسي والعمل على نشر الفوضى والذعر والقلاقل في البلاد.

هناك نغمات بدأت تصدر بقوة من أفواه الأحزاب المعارضة، التي تقول إن بن علي سقط، ولكن النظام لا يزال باقيا، مستشهدين باستمرار الوجوه القديمة من الحزب الحاكم، والحكمة تقول ضرورة العمل بما هو موجود بشكل مؤقت حتى لا يحدث الفراغ المرعب، الذي أصاب العراق بعد إسقاط صدام حسين وتفريغ الدولة من أجهزتها وتحولها إلى ساحة قتال مفتوحة، كذلك هناك مزايدة رخيصة من الأحزاب المعارضة بضرورة أن يوجد كل حزب في الحكومة الوطنية الجديدة، وإلا كانت غير شرعية، وهذا يذكرنا بالهذيان السياسي في لبنان، الذي حول الوضع فيه إلى كاريكاتير حزين وبائس. تونس بإمكانها أن تصنع مستقبلا استثنائيا في النظر والعمل على المستقبل بدلا من البكاء على الماضي والانتقام من رموزه.

مبروك لتونس الخضراء ثورتها و«عسلامة برشا» ما حصل في تونس هو الثورة الحقيقية الصادقة بلا تزييف في الكلمات ولا مبالغة في الوقائع.. خذوا عيني وشوفوا بيها!

[email protected]