لنتفق قبل فوات الأوان

TT

لو فرضنا جدلا أن سيناريو الجنوب السوداني قد تكرر في العراق، وأن الإقليم الشمالي انفصل عن العراق وشكل دولته المستقلة، على الرغم من الاختلاف الجوهري في الطبيعة الجيوسياسية والدينية والسكانية بين الحالتين، ولكن مع ذلك، فاحتمالات حدوث الأمر واردة جدا وفي أي وقت تشاؤه إرادة الدول الكبرى وتسمح به أجندتها السياسية.. أقول إذا حدث ذلك فماذا سيكون موقف بعض السياسيين العراقيين (خصوصا من بين السنة) من هذا الحدث المهم؟ هل يستطيعون منعه؟ لا أتصور ذلك، إن أقصى ما يمكن أن يفعلوه هو إطلاق بعض التهديدات والتصريحات النارية كالعادة، ورفع الشعارات الوطنية والقومية التي لم تجلب للعراقيين غير الفرقة والقتل والخراب، معتبرين ما حدث خرقا فاضحا للدستور والقانون والأعراف المتفقة عليها!! ربما سيقومون في النهاية - عندما «تقع الفأس على الرأس» - بإرسال برقية تهنئة للدولة الجديدة، مع تقديم اعتذار رسمي عن المجازر التي ارتكبت بحق أبنائها طوال السنوات الكثيرة التي حكموا فيها البلاد بالحديد والنار، كما فعل الرئيس عمر البشير وقادة الشمال السوداني عندما هنأوا أبناء الجنوب بدولتهم الفتية - وهي قادمة وعلى الأبواب - وأبدوا اعتذارهم عما ارتكب بحقهم من جرائم!!

لا بد ونحن نتحدث عن احتمالات انفصال إقليم كردستان عن العراق وانعكاساته السلبية على الطائفة السنية أن نذكر الفوائد الكبيرة التي تعود على عدة أطراف إقليمية ودولية من تشكيل الدولة الكردية القادمة. فأول المستفيدين هم الشيعة، لأنهم سوف يكونون أسياد العراق من دون منازع، وكذلك من مصلحة إيران أن يستفرد الشيعة بالحكم في دولة مهمة كالعراق من أجل تنفيذ مشاريعها التوسعية في المنطقة، ولا يخفى على أحد أن لإسرائيل مصلحة كبيرة، ليس في تفكيك الدولة العراقية بل في تفكيك الدول العربية والإسلامية جميعا.. وأخيرا من مصلحة شعب كردستان أن يستقل ويشكل دولته، ودعك من ترديد ما يقال من أن الدولة الجديدة لا تمتلك مقومات الدولة المعاصرة، أو أنها لا تطل على منفذ بحري ولا تمتلك حدودا بحرية، وليس لديها اقتصاد قوي يغذي مؤسساتها ويساعدها على الاستمرار في الحياة، أو أنها محاطة بأعداء تقليديين، وغير ذلك من العبارات التي لا تقدم ولا تؤخر. فقد أظهر الاستفتاء الجانبي الذي أجري في انتخابات عام 2005 أن 98% من أبناء الشعب الكردي يؤيدون فكرة الاستقلال والانفصال التام عن العراق بغض النظر عن كل التنظيرات الفلسفية.. يبقى أن نشير إلى أن الخاسر الأكبر في حال خروج الأكراد من العراق هم العرب السنة، لأنهم ببساطة سوف يجدون أنفسهم في غمضة عين أقلية سكانية في العراق لا تتجاوز نسبتهم في أكثر الأحوال 20%، ويخضعون لسياسات وسطوة الشيعة الذين سيشكلون حينها أغلبية سكانية ساحقة 80%..

وعليه، فمن الضروري بمكان أن يعيد هؤلاء السياسيون السنة النظر في مواقفهم السابقة المعادية لطموحات الأكراد ومشاريعهم القومية المشروعة ضمن إطار الدولة العراقية الواحدة.. من مصلحتهم الاستراتيجية البعيدة المدى أن يؤيدوا تلك المشاريع ما دامت لا تتخطى مبادئ الدستور ولا تخرج عن المفاهيم الوطنية والإجماع السياسي، وألا يكونوا عقبة كأداء أمام تحقيقها كما دأبوا على ذلك منذ 2003، فقد رفضوا بشدة كل المشاريع التي تحقق بعضا من الطموح الكردي، مثل تطبيق المادة 140 التي تعالج القضايا الخلافية بين الإقليم والحكومة المركزية خاصة قضية كركوك من دون إيجاد أي حلول بديلة لإنهاء القضية التي طالت وتعقدت، وكذلك رفضهم الدائم لإجراء أي تعداد سكاني للعراق مع أنه إجراء قانوني ودستوري، ورفضهم المتكرر لدعوات المصالحة في الموصل وإشراكهم في إدارة المدينة كونهم يشكلون ثلث سكانها.. هذه القضايا وغيرها كان من الممكن أن تحل بهدوء وحكمة واتفاق مشترك، لكن إصرار الجانب السني - وأقصد السياسيين منهم - على إخضاع الأكراد لشروطهم القاهرة وسياساتهم التي عفا عليها الدهر ولم تعد صالحة لعصر الديمقراطية والفيدرالية وتوزيع السلطات، حال دون الوصول إلى حلول معقولة لقضايا عالقة تحتاج إلى حلول.

هذه دعوة إلى تحكيم العقل والإنصاف في أمور خلافية على أساس إعطاء كل ذي حق حقه ونبذ تهييج مشاعر الناس بخطب وشعارات عاطفية تدعو إلى العصبية القومية. وهي دعوة الرجوع إلى الحق.. والرجوع إلى الحق - كما يقال - فضيلة.