جيفرسون ولينكولن

TT

الدول كبرى أو صغرى تحدد سياستها الخارجية بناء على اعتبارات شتى من الصعب حصرها جميعا، ومع ذلك فإنها جميعا تحرص على وضع هذه السياسات ضمن أطر أخلاقية وفلسفية نبيلة. وربما لا توجد دولة مثل الولايات المتحدة كان لديها هذا الحرص الخاص حتى بات معلوما أن هذه السياسة تراوحت دوما ما بين «المثالية» و«الواقعية»؛ ويخلص الدارسون الأميركيون إلى أنها كانت دوما مزيجا بين هذا وذاك.

وخلال الفترة القصيرة الماضية راقبت من هذا المنظور السلوك الأميركي إزاء المسألة السودانية والتي ملخصها هو استفتاء الجنوب الذي يسعى إلى الانفصال. وكان الأمر من ناحية موضع اهتمام أميركي بالغ عبر وزيرة الخارجية الأميركية وجيش عرمرم من الدبلوماسيين والخبراء، وبالطبع مجموعات من رجال المخابرات المركزية. أما الرئيس أوباما فلم يترك الموضوع يمر دون أن يكتب مقالا يدعو فيه السودان لكي يجعل استفتاء الجنوب يمر على خير دون توتر، واعدا الحكومة السودانية في الخرطوم بوعود إيجابية شتى إذا ما دعت الأمور تمر بسلام، أي باختصار حتى يتم انفصال جنوب السودان.

ولا أدري شخصيا شيئا عن المداولات التي جرت داخل الحكومة الأميركية والبيت الأبيض حول مستقبل السودان، ولكن المرجح أن الضغوط الداخلية لعبت دورا حاسما في ترجيح السلوك الأميركي. فسمعة النظام السوداني لم تكن أبدا طيبة، والأميركيون من أصل أفريقي رأوا في السياسة السودانية ترجمة للتعصب العربي والإسلامي ظهرت في «استعمار» جنوب السودان، وفي محاولات تطويع أو استعباد دارفور.

باختصار شديد فإن النخبة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة رأت في عملية انفصال السودان لحظة «جيفرسونية» يكون فيها إعلان استقلال مستعمرة عن دولة أم طاغية. فتوماس جيفرسون كان هو الذي كتب إعلان الاستقلال الأميركي عن الإمبراطورية البريطانية؛ وكان هو فيما بعد الرئيس الأميركي الثالث للولايات المتحدة بعد جورج واشنطن وجون آدامز وعرفت عنه أفكار ديمقراطية وليبرالية كثيرة. وما يعنينا هنا هو أن اللحظة السودانية لم تكن كذلك تماما، فالجنوب السوداني لم يكن مستعمرة للشمال حتى ولو جرى تهميشه في التنمية الاقتصادية، كما أنه لم يكن واقعا تحت ضغوط ضرائبية مثل ضريبة الشاي أو الملح التي كان على الأميركيين أن يثوروا عليها مطالبين بأنه لا ضرائب بدون تمثيل. الواقع السوداني على العكس، فلم تكن هناك ضرائب لتدفع من الجنوب، واحتاج الأمر وقتا طويلا حتى توجد ثروة بترولية في الجنوب وساعتها كانت لحظة الانفصال قد حانت.

والحقيقة هي أن الجنوب السوداني كان يمثل لحظة لينكولينية - نسبة إلى أبراهام لينكولن - حينما قرر الجنوب الأميركي أن ينفصل عن الولايات المتحدة الأميركية بسبب توسع الاتحاد لكي يشمل ولايات لا تتبنى مؤسسة العبودية - كانساس ونبراسكا - وبسبب أن الشمال في العموم قد بات أكثر قوة من الجنوب سكانيا وصناعيا مما جعل الجنوبيين يشعرون أنهم في طريقهم لكي يصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية في دولة اتحادية. كان الجنوب الأميركي يعاني في العموم من تزايد «التهميش» كما كان الحال في جنوب السودان، فيما عدا الاختلاف البين بين الحالتين، وهو أن جنوب السودان لم يكن ولا الشمال يعرف مؤسسة العبودية، وكان الجنوب والشمال السوداني كلاهما يعاني من الفقر والفاقة.

اللحظة السودانية هنا كانت تعطي مشروعية أكبر للحرب من أجل الاتحاد السوداني أكثر مما فعل لينكولن من أجل الاتحاد الأميركي. وكان من حق الخرطوم أن تدافع بواقعية عن الدولة الموحدة بالسلاح إذا اقتضى الأمر، وهو ما فعلته في عقود ماضية، وبقي المجتمع الدولي والولايات المتحدة خاصة رافضا لمشروعيتها.

الفارق هنا قد لا يكون فقط الزمن والتوقيت، وإنما أن الحكومة السودانية لم تكن تقدم نموذجا تقدميا أو ديمقراطيا من نوع أو آخر. ولكن ذلك لم يكن أبدا رسالة الولايات المتحدة، حيث لم تكن واشنطن أبدا مهتمة بمستقبل مشترك بين الخرطوم وجوبا، ولا بنضال مشترك من أجل حكم ديمقراطي أو حديث. وباختصار لم يكن النضال من أجل الوحدة أو الاتحاد كما فعل لينكولن، بل كان من أجل الانفصال عن الدولة الأم كما فعل جيفرسون، أو هكذا ربما جرى الاعتقاد.

على أية حال لم تتصرف الولايات المتحدة لصالح دولة سودانية أفضل حالا، ولكنها كانت تريد دولة سودانية أخرى لا تعرف لها تلك الهوية التي كانت قد تكونت لدى الأميركيين وجعلتهم شعبا مختلفا عن رعايا التاج البريطاني. فالجنوب السوداني لا يزال يشكل «كونفدرالية» قبائلية من الدينكا والشيلوك وغيرهما من القبائل، ولكن مهما كانت الأسماء فلا يزال بينها وبين «الأمة» الكثير الذي لا تستطيع الولايات المتحدة أن تفعل شيئا بشأنه سوى كثير من النداءات. وربما كان الرئيس كارتر هو الوحيد من الأميركيين العقلاء الذين رأوا أن الطريق الصعب للجنوب لن يكون ساعة الاستقلال وإنما ما سوف يحدث بعده.

ولكن أوباما كان يريد إرضاء طائفة كبيرة من الأميركيين: الليبراليين الذين كان لديهم الكثير ضد حكومة الرئيس البشير؛ واليهود الذين يرون الجنوب ضحية عربية، والأميركيين من أصل أفريقي الذين رأوا في قضية الجنوب عبودية أخرى، والمحافظين الذين يحاربون ضد انتشار الإسلام وكفى. كل هؤلاء كانوا يريدون استقلال الجنوب، ولو كان فوقه رأس الشمال لكان في الأمر سعادة. ولكن أوباما وصحبه وسط الحال الجيفرسونية نسوا أمرا مهما وهو المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة وبقية العالم، حيث أضافوا صومالا آخر للقائمة العالمية من الدول الفاشلة؛ وربما بضربة حظ أسود فائقة أضافوا صومالا في الشمال والجنوب. فلم يحدث أن عرف العالم الثالث من قبل، وفي أفريقيا خاصة انفصالا مخمليا حتى ولو بدا ذلك في لحظة أن أحكام العقل قد سادت، وأن الأطراف جميعا قد ذهبت إلى حال سبيلها. فقد انفصلت باكستان دمويا عن الهند، وكذلك جرى الأمر بين إريتريا وإثيوبيا في حرب تلت حرب الاستقلال، وبينما لم تنجح «بيافرا» في الاستقلال عن نيجيريا فإن الثمن ظل دائما فادحا.

وببساطة شديدة فتحت الولايات المتحدة لنفسها، ولبقية العالم أبواب جهنم، فالسودان - الشمال والجنوب - يمثل مساحة هائلة خلقت لنفسها عبر السنوات مسارب ومشارب إلى الصومال وتشاد وأوغندا واليمن، وكل ذلك وإيران، وفي كل ذلك حصلت جماعة المتطرفين في العالم على انتصار إضافي يعطيها مساحات للتدريب، وأكثر منها إضافات للتشدد والتعصب.

لقد انتصر جيفرسون على لينكولن ربما في السودان، ولكن ثمن الانتصار لن يكون إضافة إلى عالم حر ومفعم بالبحث عن التقدم العلمي والروحي، وإنما مولد لعنة أخرى تضاف إلى لعنات كثيرة من قبل.