كركوك.. بين الأكراد والحكومة العراقية والأتراك

TT

بعد حرب الخليج الثانية التي سميت «عاصفة الصحراء» تغير نمط العلاقات السياسية بين الدول بشكل عام وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، وبرز معسكر جديد معاد للمصالح الأميركية والغربية في المنطقة بمنأى عن المعسكر الاشتراكي الموالي للاتحاد السوفياتي السابق، وتحالف جديد تتمركز مصالحه ووجوده وثقله السياسي من خلال الخطوط العريضة للهيمنة الجديدة التي أصبحت واقعا لا مفر منه، بحيث أصبح معظم الدول والحكومات سائرا تحت لواء القطب السياسي الفعال والمهيمن على المنطقة على شكل ركب سياسي وعسكري واقتصادي في المنطقة الآمنة مؤقتا، التي تبشر وتؤشر إلى انفجار الأوضاع في المنطقة المتنازع عليها عاجلا أم آجلا بسبب التداعيات (desert storm). فنجم عنها تمزيق الروابط الدبلوماسية بين بعض الدول، خاصة الدول العربية، واستفادة بعض الحكومات من المعادلة الجديدة والرسم السياسي الحديث للمنطقة، فلا شك أن «مصائب قوم عند قوم فوائد».

لكن اللافت في هذه الأزمة هو صعود وبروز ملفات سياسية قديمة بين أطراف ودويلات كانوا في يوم من الأيام شركاء العمل السياسي فيها وعلى وشك الاتفاق على جملة من المسائل العالقة والمشروطة بتأمين الحقوق القومية والدستورية إلى جانب مراعاة المصالح الغربية إن أمكن، وبالقدر المستطاع في منطقة الشرق الأوسط أو ما يسميه البعض منطقة الذهب الأسود. وبدأت هذه القوى بمراعاة التوازنات الإقليمية لكيانها المستضعف الحديث نتيجة تراكم غدر الأيام وانصهار الوعود الغربية تجاههم وعلى الخصوص الوعود الأميركية للحركة الكردية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ومنها وعود وضمانات غير معلنة لوزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية هنري كيسنجر الذي أشرف على سير العلاقات السياسية بين حكومة الولايات المتحدة والملا مصطفى بارزاني قائد الثورة الكردية المسلحة في كردستان العراق، وبالتالي قيام الولايات المتحدة بالتحايل السياسي اللامشروع تجاه الوجود والمصالح الكردية وحق تقرير مصيرهم والتلكؤ في إيصال شعب مضطهد إلى بر الأمان.. اليوم وبعد مرور ما يقارب 18 عاما على انتهاء عاصفة الصحراء وأكثر من سبع سنوات على سقوط نظام حزب البعث المنحل في العراق، دأب الأكراد كعادتهم على الانسجام ومسايرة الأحداث والصراعات الإقليمية في منطقتهم بالشكل الذي يؤمن وجودهم من جهة وتأقلمهم مع المصالح الجديدة الذي خلق ويخلق لهم نوعا من الاستقرار السياسي والثقل الاقتصادي، خاصة بعد صياغة نصوص قانون الدستور العراقي الجديد واعتبار المنطقة الكردية في العراق إقليما فيدراليا يتمتع باستقلال إداري عن باقي مناطق العراق. واليوم عندما تجد حكومة إقليم كردستان العراق بين الحين والآخر محاولات الحكومة المركزية في بغداد فرض سطوتها الإدارية على مؤسسات الإقليم من خلال خلق العراقيل في عملها وإظهار الهيمنة العسكرية عن طريق الدعوة إلى سحب قوات البيشمركة الكردية من الموصل والمناطق المحيطة بكركوك، إضافة إلى بعثرة الحركة الاقتصادية في كردستان ومنها محاولة تعطيل العقود النفطية المبرمة مع الشركات الأجنبية لاستخراج النفط في كردستان على الرغم من أن الدستور قد أعطاهم هذا الحق، فإن كل ذلك أدى إلى اتساع دائرة الصراع والمواجهات حول هذه المناطق المتنازع عليها بين حكومة بغداد المركزية، التي كان قادتها في يوم من الأيام مقيمين في كردستان بكامل عددهم وعدتهم معززين مكرمين أيام كانوا في صفوف المعارضة العراقية إبان زمن نظام صدام حسين.. لكن - مع الأسف - أصدقاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم؛ وبين، حكومة إقليم كردستان، فترى أن مسألة كركوك مسألة خاصة جدا وهي بمثابة خط أحمر كما قال مسعود بارزاني رئيس الإقليم، ولا يمكن في المقابل - أيا كان - تجاوزه. فقد يعود ذلك بعواقب وخيمة على العراق والمنطقة بأسرها، خاصة في وقت تحاول فيه الجارة تركيا العبث بمصير هذه المدينة العراقية عن طريق خلق الحجج والبراهين الزائفة للعودة إلى مربع استخدام الوسيلة العسكرية لاجتياح حدود إقليم كردستان وبسط النفوذ التركي في العراق مطبقة حلم الدولة التركية في العهد العثماني، الذي ذهب وتلاشى غباره مع مرور الأيام وتغير الأزمان، بغير رجعة.

إن مخاوف الدولة التركية إضافة إلى بعض الجهات الأخرى تكمن في إبعاد الإقليم الكردي عن الاستحواذ على مدينة كركوك الغنية بالنفط والموارد الطبيعية لإبعاد الشبح الكردي في تأسيس الدولة الكردية المستقلة ومد نفوذها إلى أكراد الدول المجاورة. لكن بيت القصيد، وفي ظل الصراع الحالي الدائر، يتركز على جملة من المسائل العالقة، من ضمنها مدينة كركوك التي يعتبرها الأكراد جوهر القضية الكردية، وتحاول بغداد والدول المجاورة التسويف في تطبيق المادة المتعلقة بالمدينة وعدم وقوعها تحت قبضة الأكراد. والمهم أن الطرف الكردي مصر على أن لا يتنازل عن كركوك مهما بلغ الصراع ذروته ومهما كلفهم ذلك من تضحيات؛ لا لكون المدينة غنية بالنفط، بل لكونها تمثل رمزا قويا من رموز النضال الكردي من أجل المدينة المغتصبة.

* صحافي كردي

من كردستان العراق