أين أنت أيها الطبيب.. أين أنت أيتها الطبيبة؟!

TT

العزلة والبعد عن الناس غنيمة، وأنا أعترف أنني أهوى وأمارس ذلك الأسلوب أحيانا، فقد تمضي أيام وأيام أكون فيها منعزلا عن الناس، ولا أشعر حينها بأي ضيقة أو ملل، ولا أحس أنني فقدت شيئا واحدا؛ بل بالعكس، أكون وقتها في قمة سعادتي، المهم أن يكون لدي ما أقرؤه أو ما أسمعه وأشاهده من وسائل الاتصالات.

والغريب أنني فجأة أنقلب إلى النقيض من ذلك، فأنفلت مثلما ينفلت البعير من عقاله، فأغشى المجالس، وأكثر من الحكي والهذر والصخب، ولا أترك أحدا أعرفه إلا طرقت بابه. ولا أستبعد إطلاقا أن هناك خللا (بيولوجيا) تغلغل في كياني وخربط شفرتي الوراثية، وقد أحتاج في القريب العاجل إلى تشخيص وعلاج سريع، ولكن هل هناك من طبيب يستطيع أن يسيطر على نزواتي وحماقاتي؟!

هذه مقدمة اعترافية لكي أدخل في الموضوع الذي أنا بصدده، فأعرف أحدا من الناس - لا أريد أن أذكر اسمه - قد بزّني هذا الأسلوب الانعزالي، فله الآن ليس أيام وأيام ولكن سنوات وسنوات، وهو لا يذهب إلى أحد ولا يستقبل أحدا ولا يرد على مكالمات أحد، ويقول لي أحد أبنائه إن والده سعيد جدا في حياته، خصوصا وهو طوال الوقت جالس يسمع المطربين والمطربات ليلا ونهارا، وأحيانا يمارس الرقص وحيدا على وقع الموسيقى، فقلت لذلك الابن: يا بخت والدك، يا ليتني كنت مثله (فاتحها بحري).

غير أن إعجابي بشخص آخر لا أعرفه يفوق إعجابي بذلك الشخص الراقص الذي أعرفه.

وإذا أردتم أن أحكي لكم قصته الواقعية فليس لدي أي مانع، لكي تعرفوا فقط كم في هذا العالم من أصحاء مرضى؛ بل ومجانين عقلاء (!!).

فهناك رجل أميركي يقال له: (مونروايوف) تزوج وهو في الثانية والعشرين من عمره، وأصيب بمرض طارئ يشبه (الحصبى)، وعالجه الطبيب ونصحه أن يقضي شهرين كاملين في غرفة مظلمة لا يتسرب إليها الضوء، فطبق نصيحة الطبيب بحذافيرها، وشفي من مرضه تماما، ويبدو أن ذلك الظلام وتلك العزلة قد أعجبته وحليت في عينه، لأن زوجته عندما حاولت إخراجه منها رفض ذلك نهائيا، وعندما استنجدت بأصدقائه لإقناعه أخذ يوجه لهم الشتائم المقذعة ويقذفهم بالأحذية، ولكي يبتعد ويرتاح من إزعاجات أصدقائه ومعارفه، أمر زوجته أن تبني له كوخا منعزلا في مزرعته مساحته (10 في 5) أمتار، ليس فيه أي (لمبة)، وله باب واحد وفتحة صغيرة يدخل منها الهواء، وطبعا حمام صغير مظلم.. وفعلت ذلك، واستقر به؛ ليس سنة أو سنتين، ولكن (45) سنة كاملة، وهو يعيش في ظلام دامس، لا يخرج ولا يتحدث ولا يستقبل أحدا غير زوجته المصونة التي كانت تأتي له بالطعام يوميا ويعاشرها كذلك، لأنها أنجبت منه خلال تلك الأعوام ولدين وبنتا، لم يشاهدهم طوال حياته رغم أنهم كبروا وتزوجوا وأنجبوا أبناء، وقد حاولوا بشتى الوسائل أن يفتح لهم الباب أو حتى على الأقل أن يخاطبهم، من دون أي جدوى، وكل ما عرفوه من والدهم هي صور فوتوغرافية له عندما كان في الثانية والعشرين من عمره.

سؤالي الذي لم أجد له إلى الآن جوابا؛ هو: كيف كان يعاشر زوجته وهو في ظلام حالك ولا يعرف حتى (كوعها من كرسوعها)؟!

هل لاحظتم أن أغلب مواضيعي أتحدث فيها عن شذاذ الآفاق وغريبي الأطوار كحالاتي؟! حقا إنني في حاجة إلى علاج، فأين أنت أيها الطبيب.. وأين أنت أيتها الطبيبة؟!

[email protected]