التعصب هو الابن الشرعي للجهل والتخلف!

TT

على أرض مصر.. شيد الأجداد على مدى تاريخهم الضارب في أعماق الزمن لآلاف السنين المعابد والمقاصير والهياكل والكنائس والمساجد.. عبدوا الآلهة وبجلوها بأعياد واحتفالات رائعة مبهجة. ويقول هيرودوت هنا: «على أرض مصر لا يكاد عيد ينتهي في مدينة حتى يبدأ عيد آخر!».

يا له من بلد طيب وأرض خيرة وشعب أصيل قدم القرابين في قدس أقداس المعابد، ووضع الخبز الممسوح بالزيت على المذبح، وحجوا إلى بيت الله بمكة، وذبحوا الأضاحي يوم العيد.. ونحن نعيش منذ آلاف السنين نأكل من خير مصر ونحيا تحت سمائها ونشرب من ماء نيلها، ندافع عن ترابها ضد كل معتد، نحمي مستقبل أبنائنا.. فماذا حدث؟

وأصبح «آمون» و«رع» و«بتاح» و«ست» و«أوزير» و«سوبك» و«إيزيس» و«حاتحور» و«باستت» و«سخمت» ذكرى ونقشا على جدران معبد ومقصورة، وأصبحنا أصحاب ديانات سماوية نعبد ربا واحدا.. وها نحن نتحدث الآن عن تعصب ديني بيننا كيف لا أحد يدري.. ولا أحد يفهم؟

الأمر جد خطير لا يحتمل التهوين أو التقويل.. أصبحنا جميعا في المواجهة ضد غول لا يرحم، مرض عصري اسمه «التعصب»، وهو الابن الشرعي للجهل والتخلف، إن لم نستطع مواجهته فإن مستقبل أبنائنا مهدد، والحل بسيط وهو نشر ثقافة قبول الآخر.. ثقافة السلام مع النفس ومع الآخر، والوسيلة عند رجل الدين المسلم والمسيحي في كتاب كل منهما، وعند المعلم في المدرسة، والمحاضر في الجامعة، وكل من يجلس خلف ميكرفون الإذاعة وكاميرا التلفزيون..

ولكم استأت جدا من دعاوى بعض المثقفين الذين صدمهم حادث ليلة العام الجديد الذي ضرب كنيسة «القديسين»، وخلف شهداء لم تكتب لهم رؤية العام الجديد بسبب متعصب أحمق مجنون، أشعل فتيل الفتنة وأراد أن يجرنا لنفق مظلم، والدعاوى التي نادى بها البعض هي ضرورة غلق القنوات والإذاعات الدينية، وإلغاء تدريس الدين بالمدارس وغيرها من الحلول الخاطئة التي هي مجرد دفن للمشكلة بدلا من مواجهتها..

لا بد أن يتعلم أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة أن يتقبلوا الفكر الآخر، وأن حرية الرأي والتعبير كحرية الحياة والعيش، وأن على من ارتضى أن يعيش على هذه الأرض المصرية فلا بد أن يقبل قانونها الذي بدأ منذ وجودها. أما من يرفض الحياة مع الآخر فعليه أن يبحث له عن مكان غير مصر..

مصر أيها السادة بلد تعددت على أرضه الديانات، وكانت دوما درعا حامية لكل دين، ولم يحدث أن حاربت فكرا أو رأيا، وحينما ظهر من بين ملوكها من رفض وجود التعددية وأدت دعوته بمجرد موته، وعادت الأمور مثلما كانت قبله.. وهو «إخناتون»، الذي أبى قبول الآخر فقضى بنفسه على فلسفته.

كنت أتمنى أن يُرى المصريون المرممون وهم يعملون بحب داخل دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر، والتي استمرت به أعمال الترميم أربع سنوات، وكان المرممون من المسلمين الذين حولوا المكان المهمل إلى مكان رائع وجميل يليق بكونه الموضع الذي بدأت فيه الرهبنة، وكان المرممون المسلمون يقيمون صلواتهم داخل الدير، ويفطرون مع الرهبان في أيام رمضان على مائدة واحدة.

نعيش مسلمين وأقباطا كعائلة كبيرة نفرح بوجود أعلام في كل المجالات بغض النظر عن الخلفية الدينية.. فلا نسأل عن ديانة عائلة ساويرس وهم من رجال الأعمال المخلصين لهذه الأرض لا يبخلون بأي شيء على أبنائه، ونجد مؤسسة ساويرس الثقافية تدعم العمل الفكري والأدبي وتمنح الجوائز لمسلمين وأقباط دون أي اعتبار لخلفية أو هوية دينية، ونفخر بوجود العلامة مجدي يعقوب الذي عشق أسوان وأقام بها مستشفى رائعا خيريا لعلاج قلوب المصريين، وعندما يقوم بفتح صدر أي مريض لا يسأل: هل هو مسلم أم مسيحي!!