بورقيبة صمد 3 سنوات وبن علي 3 أسابيع!

TT

حتى لا تدخل تونس في نفق خطير لا بد أن يحتكم التونسيون إلى العقل والمنطق.

كثيرون تذكروا سهى عرفات وابنتها زهوة، بعد إجبارهما على مغادرة تونس إلى مالطا، وطائرة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي تحلق في أجواء مالطا ولا يُسمح لها بالهبوط.

كثيرون تذكروا كيف سقط الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو بعد عودته من زيارة رسمية إلى إيران.

بن علي «أنقذه» الجيش، الذي انقلب عليه.

حسد بن علي الرئيس التونسي الأول (أليس مثيرا أن «الجمهورية» التونسية، حكمها رئيسان فقط منذ استقلالها) ونسخ فصول حياة بورقيبة - من حكم مطلق، ورئيس مدى الحياة - وأعاد تطبيق كل ما فعله «المجاهد الأكبر». وما حصل مع بورقيبة حصل معه. وإذا كان بن علي يفكر في العودة، كما تشير بعض التقارير فإن فصل حياة بورقيبة الأخير يستبعد ذلك.

بن علي هو بورقيبة الثاني، ليس الجنرال الأرجنتيني خوان بيرون، ثم إن زوجته ليلى طرابلسي ليست إيفا بيرون.

الكل فوجئ بالسقوط السريع لابن علي؛ بمن فيهم التونسيون، حتى هو دهش من انتشار المظاهرات في كل تونس وتفاعل كل أطياف المجتمع معها.

كانت سمعة النظام أنه قوي داخل تونس وحتى خارجها، لكن تبين أن النظام في الداخل كان هشا، وعندما تصدع جدار الخوف الذي بناه، طار بن علي. ويقول لي المتخصص في الشأن التونسي البروفسور جيمس ماك دوغال من جامعة أكسفورد، إنه ظهرت علامات منذ فترة عن تهرؤ النظام، وليس ضعفه، عندما صادر بن علي كل الثروات، حتى مشاريع المستثمرين الأجانب.

لكن كيف يمكن لرئيس ضعيف إلى هذه الدرجة أن يظهر أمام الشعب التونسي بأنه قوي جدا؟ يجيب ماك دوغال بأن الجيش وقوى الأمن والطبقة السياسية كانوا مستعدين دائما لدعم بن علي إلى درجة جعلته يظهر وكأنه لا يقهر.

قمع بن علي كل معارضة منظمة من دون رحمة.. هوسه بأن معركته أمنية فقط منعه من رؤية التصدع داخل نظامه، لأن ما حدث مؤخرا كان لافتا. رأت المؤسسة العسكرية أنها غير مستعدة للاستمرار في دعمه، ورفض الجيش تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، ويبدو أن الجيش هو من أبلغ بن علي بأن لحظة المغادرة قد حانت. يمكن القول إن ما حدث كان انقلابا على القصر. تجنب الجيش تقديم بن علي للمحاكمة كي يضمن انتقالا هادئا للسلطة. ذكر مصدر تونسي أن الجنرال رشيد بن عمار قائد الجيش هو الذي قاد الانقلاب. ربما بن علي كان يعتقد بأن ما حصل مع بورقيبة عام 1984 سيتكرر معه. يومها عمت المظاهرات تونس ضد ارتفاع أسعار الخبز والسلع الأساسية. قُمعت تلك المظاهرات، لكنها كانت إشارة كافية لشخصيات النظام بأن شيئا ما يجب الإقدام عليه بالنسبة إلى بورقيبة. احتاجوا إلى ثلاث سنوات للإطاحة به، لكن بن علي لم يصمد ثلاثة أسابيع، وهذا ما يؤكد أن التصدعات داخل النظام بدأت قبل سنوات، لكن لم يلحظها من في الخارج. وكانت صحيفة «التايمز» اللندنية، ذكرت يوم الاثنين الماضي أن صفقة تمت بين بن علي والزعيم الليبي كي يسهل الأخير سياسة «الأرض المحروقة» في تونس، بحيث تعم الفوضى والخوف، ويُسمح عندها لابن علي بالعودة.. للإنقاذ.

يوضح ماك دوغال أن «صفقة مثل هذه ممكنة، إذا ظلت شخصيات في النظام الجديد تدعم بن علي، لكن هؤلاء باتباعهم ما نص عليه الدستور قرروا التخلي عنه. إذا أرادوا إعادته، سيجري حمام دم في تونس».

هناك تخوف من أن تدخل تونس في مرحلة شبيهة بمرحلة الجزائر في التسعينات. البروفسور ماك دوغال يستبعد إمكانية حصول ذلك، لأن ما حدث في تونس لن يحدث بسهولة في الجزائر، أو اليمن، أو مصر أو الأردن: «هذه الحركة العفوية حصلت، والتاريخ ببساطة لا يكرر نفسه، أيضا لأن تداعيات ما حصل في الجزائر ظهرت للعيان منذ زمن طويل».

لفترة طويلة تحمل التونسيون بن علي بسبب ما جرى في الجزائر. رأوا أن ما وقع هناك قد يتعرضون له، بمعنى أن بن علي سيء، لكن الأوضاع ستزداد سوءا لو تغير النظام. «هذا ينسحب على دول أخرى كثيرة»، يضيف: «الإسلاميون الذين نجحوا في الاستفادة من مظاهرات الجزائر عامي 1988 و1989 ليسوا بالقوة الرئيسية في تونس، كما لم يعودوا القوة الرئيسية في الجزائر». قد يكون من الضروري أن يتيح التونسيون مجالا في العملية السياسية لبعض المعارضة الإسلامية المنظمة للمشاركة في الانتخابات، فساحة الحرية لا تستثني طرفا، خصوصا أن التونسيين لم يتظاهروا مطالبين بالدولة الإسلامية؛ بل بدولة تحترم كرامة شعبها وتؤمن بالديمقراطية وتخضع للمحاسبة.

قد يجد البعض هذا في الحل الإسلامي، وقد لا يجد البعض الآخر الحل إلا في دولة علمانية. المهم أنه لا توجد حركة معارضة كبرى واحدة يمكنها أن تدعي أنها وراء المظاهرات وتكرر تجربة الجزائر وتفوز في الانتخابات. يقول محدثي: «الخطر الذي قد يحدث في تونس ويمكن أن يشبه قليلا ما حدث في الجزائر، يكمن في أن تحاول مجموعة في النظام استغلال ما جرى فتشجع للتمسك بالسلطة، على العنف وبالتالي يزول الشعور بالأمن والاستقرار».

من المؤكد أن تنظيم «قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي» الموجودة خلاياه في جنوب الجزائر وعلى الحدود بين الجزائر ومالي، يراقب ما يجري، لكنه لا يتمتع بأي دعم في تونس. لذلك على النظام الجديد بناء مصداقية له من دون التهويل بالخلايا الإرهابية، بحيث تنتهي المظاهرات لأن أهدافها تحققت، وليس لأنها قُمعت، وعليه العمل على فتح الحدود، لأن الأمر الملح الآن هو تدفق الغذاء والوقود إلى تونس كي يتلاشى النقص الغذائي. فهذا إذا استمر فإنه يزيد من العنف وانتشار الجريمة. وعلى الجزائر وليبيا أن تفتحا الحدود. والتطلع الآن إلى المجموعة الأوروبية لأن تونس تحتاج إلى مساعدة المجتمع الدولي.

لكن إذا استمرت الاضطرابات وعجزت الأطراف عن التنسيق في ما بينها؛ فهل يكون الجيش هو البديل؟ لا يأمل البروفسور ماك دوغال ذلك. وتصرفات الجيش مشجعة، ينسق الآن مع ميليشيا من المواطنين لحماية ممتلكات الناس. يضيف: «إذا أمكن الوثوق بالجيش (هذا سؤال كبير في كل الدول)، عندها فإن فترة انتقالية يضمن فيها الجيش الأمن والنظام مع نوع من حكومة تصريف الأعمال، قد لا تكون فكرة سيئة، حتى تجري الانتخابات».

بالنسبة للغرب، قد يدرك مع ما وقع في تونس أن تغيير الأنظمة في بعض الدول مطلوب؛ إنما على يد الشعب في الداخل، والاعتقاد بأنه الخيار الوحيد. أما مقولة: «لا بد من دعم الديكتاتوريين أو أن الإسلاميين سيصلون إلى السلطة» فخطأ، ولا تنسحب على كل دول المنطقة. أما بالنسبة للدول العربية والإسلامية والأفريقية، التي لكل منها وضعها السياسي المختلف عن الوضع التونسي، ولكنها تعاني من المشكلات نفسها، فقد تبدأ الإدراك أن هناك حاجة لتغيير مدروس نحو الأفضل. فالانفتاح السياسي والشفافية والمحاسبة واحترام الحكومات لكرامة شعوبها (في تونس طالبوا باسترجاع الكرامة)، أمور إذا مورست لا تهدد الأنظمة الواثقة.

ثم إنه بعد الذي حدث في تونس، على قادة دول كثيرة في العالم لا أن يتأكدوا من أن الشعب لن يتظاهر، بل أن يثقوا بأنهم يحكمون قبضاتهم على الجيش، هكذا كان يظن بن علي.

الخطر الكبير في تونس الآن، أنه لا توجد قوة سياسية منظمة لتستوعب المتظاهرين والمعارضة فتخلق بديلا سياسيا مناسبا لتونس. بسبب هذا الخطر، قد نواجه مشكلات كثيرة في تونس قبل التفكير في أن ما حدث قد ينتقل إلى دول أخرى مجاورة أو بعيدة.