تركيا: رسم خطوط المعركة الانتخابية

TT

خلال العامين الماضيين، كان هناك اهتمام كبير بما يمكن تسميته بأزمة هوية داخل تركيا. ويتساءل واضعو الاستراتيجيات عن الوجهة التي يحتمل أن تتجه إليها تركيا، وما إذا كانت ستتجه لتصبح دولة إسلامية تحمل رؤية عثمانية جديدة أم تجاه أوروبا مع تبني الحداثة.

وعلى الرغم من أن أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، زعم أن هذه الأزمة ليس لها وجود، فقد بقيت هذه القضية تطرح نفسها دوما داخل الساحة التركية. وكان أتاتورك يأمل أن يتمكن - من خلال البحث عن مكان لتركيا داخل أوروبا - من أن يضع النهاية للفصل العثماني، الذي جلب في آخر مرحلة منه الهزيمة والعار. وفي مرحلة، بدا أن حلمه تحقق عندما قُبلت تركيا عضوا في مجلس أوروبا وبمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).

بيد أنه في الوقت الحالي لا يبدو أن الاتحاد الأوروبي مستعد للترحيب بانضمام تركيا إليه، على الرغم من أن أجزاء من الإمبراطورية العثمانية، مثل اليونان وبلغاريا والمجر، حظيت بقسط أكبر من الترحيب.

وتتغير الحالة المزاجية داخل تركيا إزاء الاتحاد الأوروبي، وربما تتحول ضد الغرب في المجمل. ويؤثر هذا التغير على ارتباط تركيا التقليدي بالنظام العلماني، ويساعد حزب العدالة والتنمية الحاكم على ضخ جرعة أكبر من الدين في الساحة السياسية التركية.

ومن المحتمل أن تظهر هذه القضايا بوضوح خلال الحملة الانتخابية الهامة العام الحالي، والتي ربما بدأت الاستعدادات لها بالفعل.

وحتى وقت قريب، كان في حكم المؤكد تقريبا أن حزب العدالة والتنمية سيحقق الفوز للمرة الثالثة، حيث كان الوضع الاقتصادي يمضي على نحو جيد، فيما عانت المعارضة من الانقسام وغياب القيادة.

وقد صُمم النظام الانتخابي الفريد داخل تركيا ليساعد الأحزاب الكبيرة، فمن أجل تحقيق فوز داخل الجمعية الوطني الكبرى (البرلمان التركي)، يجب أن يحصل أي حزب على 10 % على الأقل من الأصوات. ويجري توزيع الأصوات التي حصلت عليها أحزاب لم تنجح في الوصول للحد الأدنى المقبول على الأحزاب التي فازت بأكثر من 10 % على نحو متناسب. وعليه، انتهى الحال بحزب العدالة والتنمية، الذي نال 43 % من الأصوات في المرة الأخيرة، بالحصول على 60 % من إجمالي المقاعد.

إلا أن هذا الوضع يتبدل الآن، فللمرة الأولى منذ قرابة عقد، وعلى نحو يعكس بصورة جزئية الركود العالمي، بدأت عجلة الاقتصاد في التباطؤ. وشهد هذا العام أكبر عجز بالموازنة منذ تولي حزب العدالة والتنمية زمام الحكم منذ ما يقرب من عقد. ورغم أن التضخم ما يزال تحت السيطرة، بدأت معدلات البطالة في الارتفاع. ومع أن أداء الاقتصاد التركي ما يزال أفضل من أداء الكثير من اقتصاديات دول أعضاء بالاتحاد الأوروبي، فإن خرافة تميز حزب العدالة والتنمية بلمسة سحرية ثبت زيفها.

والأهم من ذلك، أن المعارضة ربما تحتشد الآن حول نسخة محدثة من الحزب الشعبي الجمهوري، الذي يعد واحدا من حزبين أسسهما أتاتورك في عشرينات القرن الماضي كجزء من خطته لإقامة نظام برلماني يقوم على حزبين على غرار الحال في بريطانيا. وعلى مدار قرابة ثلاثة عقود، تولى الجنرال عصمت أنونو، أحد رفاق أتاتورك المقربين، قيادة الحزب الشعبي الجمهوري. أما الحزب الآخر، الحزب الديمقراطي، فقد اختفى بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال جمال غورسيل عام 1960.

ومرور السنوات، فقد الحزب الشعبي الجمهوري الكثير من بهائه ومكانته، وتحول إلى مجرد كيان ممثل للمؤسسة العسكرية، ودليل على أن الجنرالات خلعوا ملابسهم الرسمية فقط لإرضاء حلفائهم الأميركيين. وينظر الكثير من الأتراك إلى الحزب باعتباره متواطئا في الهجمات التي شنتها المؤسسة العسكرية من حين لآخر ضد الديمقراطية التركية. وفي محاولة للقضاء على هذه الصورة، انتهج الحزب الشعبي الجمهوري خطابا يساريا أثار سخط الأتراك المتدينين والمحافظين الذين يخالجهم بالفعل عدم ارتياح تجاه العلمانية الراديكالية التي يعتنقها الحزب.

ومع خسارته زعيمه الراحل صاحب الشخصية الكاريزمية بولنت أجاويد منذ عقد، بدا الحزب الشعبي الجمهوري متجها نحو عالم النسيان.

أما الآن، فيبدو أن الحزب يشهد صحوة تحت قيادة زعامة كاريزمية جديدة تتمثل في كمال كيلغدار أوغلو نجحت في تجديد ما يقارب كل المراتب العليا من هيكل قيادة الحزب. يذكر أن كيلغدار أوغلو انتخب لرئاسة الحزب الربيع الماضي. وللمرة الأولى منذ أكثر من عقدين، أصبح للحزب الشعبي الجمهوري الآن وجود جدير بالثقة في جميع نواحي البلاد.

ويحمل مجرد اسم القائد الجديد صدى سحريا في آذان العناصر المتقدمة في العمر من أنصار الحزب الشعب الجمهوري. ويذكر اسمه الأول، كمال، الجميع بأتاتورك. أما لقبه، الذي يعني «نجل حامي السيف»، فيرسم له صورة فارس يتحرك نحو معركة فاصلة.

بجانب ذلك، أخبرني البعض أن القيادة الجديدة تخوض «مفاوضات مكثفة» مع قرابة ستة أحزاب أصغر لتشكيل تحالف انتخابي في مواجهة حزب العدالة والتنمية. وحال نجاح هذه الجهود، فإنها ستخلق ظاهرة جديدة على الساحة السياسية التركية التي يشيع فيها عادة تكوين التحالفات بعد، وليس قبل، الانتخابات. ولو وافق فقط نصف الأحزاب المشاركة في المفاوضات الحالية على حشد مواردها معا، فإن الكتلة الجديدة قد تفوز بحصة أكبر من تلك التي قد ينالها حزب العدالة والتنمية. على رأس كل ذلك، يتميز كيلغدار أوغلو بمقدرة كبيرة على الخطابة والأداء الملائم لشاشات التلفزيون. لكن تبقى مشكلة واحدة، أن الحزب ما يزال مفتقرا إلى الثقة بخصوص هويته السياسية، حيث يرغب بعض قادته في تغليف الحزب بـ«طابع إسلامي بعض الشيء» لمنافسة حزب العدالة والتنمية، من خلال إطالة لحية رمزية والإمساك بمسبحة. كما يرغبون في التخلص مما تبقى من النبرة الاشتراكية القديمة عبر إعلان مواقف محافظة حيال عدد من القضايا الاجتماعية والأخرى المتعلقة بأسلوب الحياة.

بمعنى آخر، يرغبون في طرح نسخة أخف وطأة من حزب العدالة والتنمية. إلا أن مثل هذه الوصفة بمقدورها دفع الحزب الشعبي الجمهوري نحو هزيمة انتخابية أخرى مدوية. وليس بإمكان المعارضة العودة للسلطة إلا إذا سئمت الجماهير من حزب العدالة والتنمية. وفي هذه الحالة، سيكون الشعب على استعداد لتجريب مسار مختلف، ولن يقبلوا بنسخة مخففة مما رغبوا في نبذه.

من جهته، يحاول حزب العدالة والتنمية التعتيم على الطابع العلماني للدولة التركية. وينبغي على المعارضة مواجهة ذلك من خلال إعادة التأكيد على ما شكل المبدأ الرئيسي الذي تقوم عليه الأمة التركية منذ أكثر من 80 عاما: دولة علمانية داخل مجتمع ديني. ويعني ذلك أن الدولة والدين يحتلان موقعين مختلفين يمكن لهما من خلالهما العمل والتطور على نحو كامل بما يخدم مصالح الشعب التركي.

وباستطاعة الحزب الشعبي الجمهوري تصوير حزب العدالة والتنمية كخطر على هذا التوازن الدقيق.

وفيما وراء ذلك، يبقى ما ينفع الحزب هو طرح خيارات على أصعدة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية تتميز بالإبداع والجرأة. في البداية، فاز حزب العدالة والتنمية من خلال ذلك. واليوم، يبدو أن الأفكار الجديدة لديه قد نفدت.

فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، تبدو تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية وكأنها تسير اعتمادا على الطيار الآلي.

ووصل حزب العدالة والتنمية لحائط مسدود فيما يخص التعامل مع ما يطلق عليه «المشكلة الكردية». في الواقع، ربما يتهيأ الحزب لإعادة إشعال حرب كردية على أمل دغدغة الميول الشوفينية لدى قطاع من الناخبين.

كما تعاني السياسة الخارجية التركية فشلا ذريعا مع استخدامها لغة الإشارات والإيماءات، مثلما تجلى في حربها الزائفة مع إسرائيل وتوددها المعلن لإيران، كبديل لاستراتيجية وطنية. وما زاد الطين بلة الفساد الجديد والمستشري الذي حمله معه حزب العدالة والتنمية مع ظهور علاقات غير شرعية بين الحكومة ومجال الأعمال.

وعليه، فليس من المثير للدهشة أن تكشف استطلاعات الرأي أنه للمرة الأولى منذ عقد من الزمان أصبح حزب العدالة والتنمية في خطر.

ويعني ذلك أن الانتخابات العامة هذا العام تحمل فرصة كبرى للحزب الشعبي الجمهوري وتحديات جساما لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ونجم المعارضة الصاعد كيلغدار أوغلو.