ومضية تونس بين المستحرقين والمعلقين

TT

التأريخ لتونس الجديدة يبدأ بهروب الرئيس كأمر شاذ على مؤسسة العرب الفكرية (صحافة وفضائيات ومعلقين).

حصيلة الأسبوع الأول، من الومضة التونسية؟

تخمينات وتصورات توفر مادة غنية لمنولوجيستات الفكاهة.

التحليلات، المضحكة في بليتها، انتقلت عدواها من جنوب المتوسط إلى صحافة اليسار في شمال أوروبا.

الكولونيل معمر القذافي كان أول الزعماء المعلقين؛ يلوم الشعب التونسي لافتقاره فضيلة الصبر لثلاث سنوات، وعدهم بها زين العابدين بن علي. لو استوعب التوانسة كلمات الكولونيل الفضية لاحتفظوا بثروتهم الذهبية.

نصح الزعيم الليبي جيرانه بدعوة زعيمهم الهارب بإرادته (أو بغيرها) للعودة فورا لإدارة دفة تونس إلى بر الأمان قبل أن يبتلعها اليم؛ والأذكياء بين الليبيين سيدركون الحكمة المطوية بين سطور رسالة القائد؛ وهي بالمصري الفصيح: اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش.

انتشرت موضة حرق النفس التي بدأها المرحوم محمد بوعزيزي (شهيد ثورة الياسمين عند البعض، وكافر عند الآخر «وحالة تستحق الدراسة» عند طبيب بريطاني استشرته في الأمر).

معلقون وصحافيون عرب، ابتهجوا بتفجر شرارة الحرية وتوقع انتقالها للشعوب المقهورة، دون اكتراثهم بالإنسان «الفرد»!

لم أصادف (ورقيا أو فضائيا أو إنترنتيا) خبرا عن تحقيق قضائي أو صحي - طبي أو محاولة صحافية لاستشارة طبيب نفسي، عن دوافع الشخص، في صحف بلدان المستحرقين auto–arsonists (وأدعي امتلاكي حق صك الكلمة بالإنجليزية والعربية معا) كموريتانيا والجزائر ومصر.

السؤال، سيكولوجيا، مهم: هل الاستحراق مجرد تقليد لموضة بوعزيزي؟ أم الوقوع ضحية التغطية الصحافية وتحمس الجهابذة المعلقين؟

هل أقنعت تعليقات المثقفين المستحرق أن الاحتجاج اللهبي، سيؤدي بداروينية (من تشارلز داروين) سياجتماعية إلى طفرة تتطور فيها ثورة الياسمين، إلى ثورة شاي أخضر، أو ثورة «مقلوبة»، أو فول وطعمية؟ أم حالات فردية تتطلب سرعة العلاج (بـ counselling الشخصي أو بالعقاقير) قبل وقوع آخرين ضحية تحليلات تدعو للرثاء أو للتسرع، معلقين رومانسيين بالحكم؟

صحافة اليسار البريطاني (والبي بي سي أهم منابرها) بذلت محاولات يائسة لإقناعنا بنظرية انتقال الومضة التونسية إلى بقية البلدان عبر مقارنات مضحكة.

صحافة الوسط التزمت بأصول المهنة (تحليل معرفي لما حدث، وليس التخمين لما قد يحدث) وتحقيقات جذابة.

نشاطي الأكبر كان المناقشات، الإنترنتية مع نشطاء مصريين (مقارنات متحمسة ودعوة للتظاهر). نصيحتي لم تتغير منذ ميلاد حركة كفاية: العنف والمظاهرات عكسية النتائج (اقتصاديا؟ هروب السياح من تونس، وتدمير 43 بنكا، و11 مركزا صناعيا و66 مركزا تجاريا من أملاك «الشلة الحاكمة»)

في رواية ماري شيللي (1797 - 1851) ركز الدكتور فيكتور فرانكنشتين، على قوة مخلوقه العضلية متجاهلا عقله، فدمر الأخير المختبر والدكتور وتسجيلاته العلمية (ذكرت المقارنة بالإنجليزية قبل ربع قرن محذرا من دعم C.I.A «المجاهدين» الأفغان؛ ومن رحم الدعم ولدت «القاعدة» والطالبان و11 سبتمبر/ أيلول).

الأفضل التطور الإصلاحي وتفعيل الدساتير المعطلة. صمد وزير الخارجية ويليام هايغ لإلحاح مذيعة «البي بي سي»، صباح الثلاثاء لانتزاع دعوة منه للمصريين والجزائريين وشعوب المنطقة لتقليد التونسيين للتخلص من الأنظمة (حلم اليسار البريطاني المعلن ضمن جهوده لتصفية إرث الإمبراطورية). وبهدوء المحافظين كرر هايغ موقف حكومته وسابقاتها بدعم بريطانيا لهذه الأمم (مركزا على «الأمم» والتعبير في لغة السياسة يعني الحكومات والشعوب ومؤسسات الدولة، والسلطة الرابعة) لرفع مستوى حقوق الإنسان وسيادة القانون والإصلاحات الديمقراطية، بينما تقدم الدعم المادي والثقافي (حكومة الائتلاف ضاعفت ميزانية دعم البلدان) محذرا من العنف والانقلابات العسكرية.

تونس، رغم تزوير الانتخابات، وسيطرة الحزب الواحد، وقمع المعارضة، وغياب حرية التعبير والتجمع والصحافة (وتونس ليست فريدة)، نجح بن على في جذب معونة مالية سخية من أوروبا وطور السياحة، وحافظ على تركة الحبيب بورقيبة في حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، كحالة فريدة بين البلدان الإسلامية، واستثمرت حكومته في التعليم فرفعت نسبته (74.3%) وخريجي الجامعة إلى مستويات عالمية.

لكن الفساد والمحسوبية وسيطرة الأسرة على الحكم (تعبير فليت ستريت عن الظاهرة هو «دولة المافيا») حيث لا تعبأ أجهزة الأمن، والجيش، وحتى الوزراء، والبنك المركزي (كحالتي تونس والعراق لحظة هروب النظام) للقانون أو البرلمان، وإنما هم مسؤولون فقط أمام أسرة الحاكم.

آلاف خريجي الجامعات بدأوا مساءلة الحكومة والنظام اللذين وفرا لهم التعليم، عن حقوقهم ونصيبهم من كعكة، مكوناتها منح أوروبا والدعم الغربي ودخل السياحة، لكن الخباز احتفظ بمعظمها تاركا لهم الفتات.

ارتفاع التعليم في تونس وقلة نصيب الإسلاميين في المعارضة، حالة لا تنطبق على البقية - كحالات تخريب العسكرتارية نظام التعليم وانخفاض وعي الخريجين – أو في حالات نشاط المتشددين بماضيهم الدموي وتبريرهم للإرهاب، وتصادماتهم بالنظام (بينما يرحب بهم سرا)؛ فنشاطهم تحذير للغرب ودعاة الديمقراطية، بتفضيل خيارين لا ثالث لهما: «استقرار» الشلة الحاكمة (بوصف فليت ستريت، أو صحافة فرنسا) أو الإمارة الإسلامية ماركة إيران وحماس والطالبان وحزب الله.

الحركات الليبرالية الديمقراطية الداعية للدولة المدنية في حالة مزرية. إما مغيبة بلوائح بيروقراطية وقانونية تحول دون خوضها الانتخابات (حزب مصر الأم، من مجموعة محامين، والحزب الليبرالي المصري، من مجموعة أكاديميين، لا يزالان تحت التأسيس لاستمرار رفض لجنة الأحزاب لـ12 عاما التصريح لهما بالنشاط!). أو باختيارها. فرغم سهولة وسائل الاتصال الحديثة، أدارت هذه الحركات ظهرها لحاجات الناس لتنشغل بأمور غير وطنية (زرعتها بروباغندا الأنظمة في أدمغتهم كقضايا مصيرية) كشجب التدخل في العراق وأفغانستان، وملاحقة المتهمين بالتطبيع مع إسرائيل - رغم تطبيع الفلسطينيين أنفسهم بمعاهدة سلام - بدلا من القضايا الوطنية كرغيف الخبز والإسكان والإصلاحات الدستورية.

النزول للشوارع في هذه البلدان لن يوصل للدولة المدنية، بل لسيطرة الإسلاميين - وسلاحهم المخزن وإمكانياتهم المالية الهائلة - على الشارع، وسيتدلى المثقفون الوطنيون من أعمدة الكهرباء، كما حدث باختطاف الحركة الخمينية للثورة الإيرانية التي بدأها العلمانيون، وأكلها الإمام على الجاهز.

التركيز على المطالب الدستورية واحترام الفرد، قد يبدو طريقا أطول، لكنه أكثر سلامة، وفي الاتجاه الصحيح.