إعادة زيارة لأحداث تونس

TT

عندما تنشب الحروب يعاد القول من جديد: إن الحقيقة هي أولى الضحايا، وعندما تنشب الانقلابات أو الثورات يتذكر القوم قولا آخر، هو أن «الموضوعية» هي أولى الضحايا. من أهم الضحايا في خضم ما يحدث في تونس، ليس أكبر وأعظم من «الموضوعية» التي اختفت بين الاجتهادات المختلفة لتفسير ما حدث.

في ثقافتنا العربية، «الموضوعية» مكروهة، فأنت إما مع هذا الفريق وإما مع ذاك، خاصة في الفضاء السياسي الاستقطابي، مستخدما في الغالب العاطفة كميزان لا العقل، فيما حدث في تونس فإن أفضل موقف انتشر بين كثير من المتابعين هو هجاء النظام السابق بأقبح الكلمات.

فجأة وجدنا كتابا ومحللين يشهرون أقلام «الشجاعة» ضد بن علي شخصيا ونظامه، وكأنهم اكتشفوا العجلة، وكيف أنهم قالوا له كذا وكذا ولم يسمع لنصيحتهم الذهبية وذهبوا إليه مضطرين أو جاملوه منافقين، أو أن البعض أراد أن يعمم ما يرغب فيه من أجل تفجير «ثورة شعبية» في هذا البلد العربي أو ذاك مفتشا عن عناصر التماثل الصورية بين ظروف تونس، وظروف البلد الذي يرغب في أن يطيح بنظامه.

حقيقة الأمر أن أول من اختفى في خضم التحليلات في الموضوع التونسي - بعد بن علي - هو النظر بموضوعية لما حدث.

في تقديري أن بن علي ونظامه كانا ضحية إنجازات بن علي ونظامه.

كيف يمكن أن يكون ذلك موضوعيا؟!

نعرف الآن أن المواطن التونسي هو الأعلى دخلا في البلاد العربية غير النفطية، وأكثر في نسبة المتعلمين، والأكثر في مشاركة المرأة، والأكثر طوعا في الانصياع للدولة المدنية المستقرة، كما أنه - حسب التقارير العالمية المسندة - يتصدر عربيا مؤشر «جودة الحياة»، وتشمل: الأمن، والمناخ، وتكلفة المعيشة، والترفيه، والثقافة، والصحة.

ما حدث من «تظاهرات» له أسباب مختلفة وعميقة، ربما منها القبضة البوليسية، أو ما كان يسمى «اليد الحديدية في قفاز مخملي»، لكنها، أي المظاهرات تلك، لو حدثت في مكان آخر له مواصفات أخرى غير ما هو موجود في تونس، ربما لما انتهت إلى ما نعرفه، فهي، أي المظاهرات التونسية، انتهت إلى تغيير في نظام الحكم، بطريقة شعبية وبأقل التضحيات النسبية. ذلك يحسب إيجابيا لبناء الدولة التونسية الحديثة.

لنناقش شرارة الانطلاق، وهي أن يحرق مواطن نفسه، جرَّاء القهر الذي وقع عليه، فجأة تعممت الحادثة، فإذا بنا نشهد، في الأيام القليلة الماضية، أكثر من حادثة في أكثر من دولة عربية لحرق النفس!! على افتراض واهم، عززه الإعلام العربي، أن تفيض التجربة التونسية بمفرداتها على بعض المجتمعات العربية، لكن تلك الشرارة لم تشعل الحريق المتوقع، لتسري بعد ذلك في المجتمع المعني هبة شعبية واسعة، كما حدث في تونس.

تلك أولى نقاط الاختلاف، فقد كان قتل النفس بسبب الظلم غير متوقع وغير مقبول في تونس، كما هو قتل العزل في المظاهرات، وذلك بسبب تركيبة المجتمع المدني، الذي بناه أبناء تونس على مر العقود التي تلت الاستقلال عن فرنسا. فما وقع كان شيئا استثنائيا وغير مقبول.

علينا أن نتذكر أيضا أن النضال التونسي، الذي خلق المجتمع المدني النسبي، قد أبعد «العسكر» عن اللعب بنار السياسة، وتلك ميزة تونسية أخرى، فعلى الرغم من كل ما حدث من عصيان مدني واسع، ومن قتل لعدد كبير من المواطنين - يُقتل عدد أكبر منهم في سجون بعض الأنظمة من دون أن يهتز لها جفن! - على الرغم من ذلك كله، لم تنفتح شهية العسكر التونسي للقفز على دفة الحكم وإصدار البيان الأول، ولم يفكر حتى بن علي أن يسلم السلطة - قبل الرحيل - إلى «لجنة إنقاذ عسكرية». لقد استجاب النظام السياسي المدني إلى تحول شبه سلس من خلال المدنيين، متجها إلى التحولات المطلوبة شعبيا، معترفا بأن هناك أخطاء وجب تصحيحها، ومن ثم استجابت قوى مختلفة حداثية تونسية لهذا التحول.

المعادلة التونسية وجب أن ينظر إليها من منظور آخر، غير التشفي من جهة، ومن غير إطلاق التعميمات شماتة، من جهة أخرى. هي، كما قيل كثيرا وبشكل موسع، أن الناس لا يعيشون من أجل الخبز وحده. لقد كان هناك «خبز وافر نسبيا» في تونس، وما زال.

أماريتا كومار سن، الاقتصادي الهندي (أصله بنغالي)، والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1988، كتب منذ وقت مبكر يقول: «إن مبدأ الرفاه يتعدى مسألة توافر مواد الاستهلاك، إنه أيضا حرية الاختيار والمشاركة في قضايا المجتمع، مع كل ما تقدمه المشاركة للفرد من احترام ذاتي». وفي تعليق لكاتب هذه السطور، نُشر هنا قبل أسابيع في هذا المكان، ومتابعة لتكريم المسجون السياسي الصيني بمنحه جائزة نوبل للسلام، جاء النص كالتالي: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وهي فكرة متجذرة في عقل كل إنسان، الناس تتوق إلى الكرامة التي لا يعوضها العيش الرغد».

الخطأ الفادح، الذي قاد إلى ما قاد إليه في تونس، أن النظام التونسي لم يتبين اللحظة الحرجة التي يخطو فيها من «تنمية اقتصادية» حققت أهدافا ملحوظة من تعليم وخلق طبقة وسطى وتحسن في مستوى المعيشة، إلى «شيء من التنمية السياسية» بإشراك قطاع أوسع من النخب الجديدة التي نمت في العقود الثلاثة الماضية، استمر النظام - من خلال الحزب الحاكم – في الركون على أهل الساحل التونسي في الحكم، واختلط ذلك بالكثير من الزبائنية. وربما هناك خطأ آخر هو تجاوز ما نصت عليه كل الحكمة الإنسانية في إدارة المجتمع وهو أن «العدل أساس الملك» الذي يسمى اليوم الفصل القطعي والواضح بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية. الاثنان، التلكؤ في توسيع دائرة المشاركة والتدخل في القضاء، كانا كعب أخيل في النظام التونسي صاحبهما عنصر ثالث وهو عدم ربط مخرجات التعليم بسوق العمل.

لم يكن حرق مواطن لنفسه، ولا حتى ما قيل من فساد واسع، السببين الأهم. فالأخير متوافر بكثرة في أكثر من مكان، والأول رأينا كم من الأشخاص حرقوا أنفسهم، ولم يحدث ما حدث في تونس.

معركة تونس الآن أقسى مما تم حتى الآن، وهي: إلى أي قوى اجتماعية / سياسية، تؤول الدولة التونسية الجديدة؟!

هناك من يرى أن قوى المجتمع المدني المتحضر، الذي أبقى على سلطة الجيش والقوى الأمنية الداخلية، وتماسك الطبقة الوسطى قادر على أن يأتي بنظام جديد يتواءم مع ما وصل إليه المجتمع التونسي من نضج. والبعض يرى أن الثورة الشعبية التي تمت ليس لها رأس، ويمكن أن يخلق الرأس تخليقا عن طريق المزايدات في الشارع، وتمسي تونس «دكتاتورية ثورية» بلون واحد، يترحم العقلاء بعدها على نظام بن علي!

ما يبدو على السطح ويظهر للمتابع أن هناك تنازلات يومية، تخضع للضغط وربما للابتزاز، حتى تنزلق تونس إلى «الدكتاتورية الجديدة». وهو احتمال ممكن، ولكنه ليس قطعيا.

لا يحتاج أهل تونس إلى دروس، لكن في غمرة فرح النصر، هناك قوى تريد أن تأخذ تونس إلى الاتجاه المعاكس للحداثة والدولة المدنية تحت شعارات قد تتراقص لها أحلام العوام.

إذن معركة تونس لم تنتهِ بعد، نحن جميعا في الفصل الأول، كل ما نحتاجه من خارج تونس أن ننظر إلى الحالة التونسية بنظرة موضوعية، هل نستطيع ذلك؟