التعاسة وحركة الشارع المهددة للسلطة

TT

ربما تعتقد أن حركة الجماهير (mass movement) المهددة للسلطة، تحدث بدافع من شدة التعاسة الناتجة عن الظلم والفقر المدقع، غير أن واقع الحياة والسياسة كما يرى المفكر «إريك هوفر» يشير إلى أنه في الدولة القمعية يثور الناس عندما يتوافر شرطان، الأول هو أن تبدأ أحوال الناس المعيشية في التحسن، في نفس الوقت الذي تخف فيه قبضة الدولة من على رقاب البشر. هكذا يمكن قراءة ما حدث في تونس من خلال هذا المنظور، جو قمعي بامتياز، تنمية حقيقية، تحسن في أحوال البشر المعيشية، ثم تخفيف نسبي لدرجة القمع. بالطبع هناك عوامل أخرى مساعدة لا بد أن نأخذها بعين الاعتبار، غير أنها تمثل المفجر وليس التفجير، مثل حادث انتحار الشاب بوعزيزي الذي اكتسب بعدا رمزيا عاما نظرا لملابساته، لست أقصد بطالة شاب حاصل على مؤهل جامعي ثم اضطراره للعمل كبائع جوال، بل أقصد صدامه مع ضابطة الشرطة التي صفعته على وجهه. وفي اللحظة التي رفعت فيه الشرطية كفها لتهوي بها على وجهه لم تكن تعرف أنها تهوي بها على وجه الشعب التونسي كله.

ونتوقف لحظة أمام حادث انتحاره، الذي أغرى بعض الأفراد في مصر بتقليده، بجد أو في إطار هازل، مثل ذلك الشخص الذي أمسك بزجاجة أمام مصلحة حكومية وصاح: «هذه الزجاجة فارغة.. إذا لم تحلوا لي مشكلتي، فسأملأها بنزينا وأعود لكم لأحرق نفسي».

شخص آخر يعمل محاميا وعنده مشكلات مع ابنته، اصطحب طفله الصغير معه وذهب إلى مجلس الشعب وأحرق ساق بنطلونه. المسكين لم يعرف أنه طبقا للقانون يمكن محاسبته على تعريض حياة طفله للخطر.

الانتحار شيء والشروع في الانتحار شيء آخر، وكلاهما يمثل عنصر نجومية جاذبا لأشخاص ذوي تركيبات نفسية معينة، وهنا نلجأ لعالم الأدب لشرح ما نعنيه بعنصر «النجومية» الجاذب، ففي أعقاب نشر رواية غوته «آلام فرتر» في بداية القرن التاسع عشر، والتي ينتحر فيها البطل تحت ضغط عذاب الحب والتعاسة، سنجد أنه قد حدثت عشرات حالات الانتحار بين الشبان.

هناك زين العابدين بن علي واحد، وبوعزيزي واحد، الأول تولى دفن نفسه بنفسه في مقبرة التاريخ، والثاني فجر حركة الشارع في تونس. غير أننا في كل الأحوال علينا أن نذكر ما قاله رول ماي عالم النفس الشهير (In love and glory - في الحب والمجد) من أنه عندما تتردد على العيادة النفسية حالات معينة متشابهة، فعلينا أن نعرف أنها خاصة بالحالة، وفي الوقت نفسه، هي تتنبأ بما سيكون عليه المجتمع ككل.

غير أن الحالة التونسية، وربما لعشرات الأعوام المقبلة، ستصلح مادة للدراسة لطلبة العلوم السياسية والاجتماعية، أما نحن هذا الجيل المعاصر للأحداث فمن السهل علينا أن نلاحظ أن التعاسة والفقر لم يكونا من مفردات الجماهير الثائرة في شوارع تونس، لا مطالب، لا شعارات، بل كان انفعال الغضب وحده هو الذي يطل علينا من على الشاشة الصغيرة، وهو ما يجب أن نبحث له عن تفسير يكون ذا فائدة لنا في تسيير مجتمعاتنا العربية على نحو يعرف التنمية ولا يعرف الانفجار. لماذا كان الناس جميعا في الشارع غاضبين كل هذا الغضب؟ من أين أتت السلطة الحاكمة في تونس بهذه العبقرية الفريدة التي دفعت الناس إلى الخروج هائجين إلى الشارع يطلبون شيئا واحدا هو التخلص من السلطة التي يمثلها رئيس البلاد؟ وهو أيضا لم يقصّر في الاستجابة لطلباتهم، بل ربما قام بذلك بسرعة لا يتصورها أحد، مساهما بذلك في تأكيد عنصر «الاحتقار» الذي غذى الثورة وأشعلها اشتعالا، ومن ذلك صورة لن ينساها أحد، لعدد من رجال الشرطة، في وضح النهار، وأمام الكاميرات، ينهالون على مواطن واقع على الأرض بالركلات وبقبضات الأيدي وبالعصي، والتي من المؤكد أن العقل الجمعي في تونس رأى فيها تلخيصا لما يحدث له ويعانيه كشعب.

من أهم نصائح ميكافيللي للأمير، وهو من أعظم خبراء أصول الحكم «لن أقول لك ماذا تفعل لتحصل على حب شعبك، فالناس عادة يحبون أمراءهم، بل سأقول لك ماذا يجب ألا تفعل، لا تفعل شيئا يجلب عليك كراهية الشعب واحتقاره». ليس الفساد هو ما جلب الاحتقار للقيادة السياسية في تونس، بل انعدام الحياء في ممارسته، فعندما تمارس حاشية للرئيس كل هذا الفساد بدافع من قربها من السلطة، وتمارسه بكل هذا الوضوح والبجاحة، فلا بد أن الدافع لذلك هو الشعور بالاحتقار للشعب. ليس لأنهم لا يحترمون الشعب، ولكن لأنهم لا يحترمون أنفسهم. أريدك أن تتأمل تلك الجملة الشهيرة التي يقولها الإنسان عندما يوجه له أحد إهانة، هو لا يقول له «احترمني»، بل يقول له «احترم نفسك»، لذلك يقول المثل الشعبي المصري «اللي بيحترم، بيحترم نفسه». هذا الاحتقار الكبير والغريب من حاشية الرئيس الهارب دلالة واضحة على انعدام عاطفة اعتبار الذات عندهم، ولا حتى البلطجية أصحاب السوابق يسلكون هذا السلوك. أما سلوك رئيس الدولة نفسه، فبالتأكيد هو يفتقر لأبسط عناصر النبل السياسي بأي صورة من الصور، قبطان السفينة الغارقة لا يقفز مبتعدا عنها، هو يغرق معها، هذا جزء من عمله كقبطان، لو كان ضابط شرطة حديث التخرج لحاكمه رؤساؤه بتهمة الجبن. ليس لرئيس دولة أن يهرب من المسؤولية، ليس لقبطان أن يقفز من سفينة غارقة بغير أن يتأكد حتى من أنها على وشك الغرق.

الآن فقط اتسعت دائرة الاحتقار لتشمل العالم كله ضد الرئيس الهارب وضد حاشيته، لذلك ستلاحظ أن فرنسا وسويسرا سارعتا في الدقائق الأولى بعد هروبه إلى التحفظ على كل حسابات البنوك الخاصة بهؤلاء الناس. وبعدها بالطبع ستدور ماكينة المطاردة الخاصة بالأجهزة التونسية لتستعيد كل فلس نهبته هذه الحاشية. هذا ما كان يجب أن يفكر فيه الرجل قبل أن يسارع بالهرب، غير أنه من الواضح لي على الأقل، أن الديكتاتور عاجز عن التفكير الصحيح وهو في أوج قوته أو ضعفه.

في يوم ما قال بعض الناس لمحمد علي باشا باني مصر الحديثة «شعبك من الحمير»، فرد عليهم «نعم.. لكنهم هم الذين أوصلوني إلى الحكم» وهذه حقيقة بالفعل، فقد كان مشايخ مصر في ذلك الوقت هم من طلبوا من الباب العالي بكل إصرار تعيينه واليا على مصر.

الاحتقار نابع من انعدام احترام النفس وعاطفة اعتبار الذات، وعلى كل من يعمل بالسياسة في كل المستويات، أن يحترم الناس.