تحيا الأمية!

TT

احتج بعض القراء على قولي بأن التشكيلة الحالية للبرلمان العراقي هي حصيلة أصوات الجهلة والأميين. الجهالة مرض يصعب شفاؤه. فممن كتبوا لي عراقي في أميركا افترض أنه من المبتعثين والخريجين والمتعلمين، بدليل رسالته المطبوعة طباعة أنيقة والمكتوبة بلغة رصينة. ولكنها احتوت من الكلمات على ما لا يسمعه الإنسان إلا من «عربنجي». يسوق فيها أبشع «الفشار» على والدتي وأختي وهما في عالم الآخرة قبل أن يولد هذا الفتى. وهو ما قلته: الجهالة مرض يصعب شفاؤه. حمل معه إلى أميركا جهالة «العربنجية»، ولا أشك في أنه سيعود بها!

الركن الأساسي لهذه الجهالة أنهم تصوروا أن ما قلته عن الجهلة والأميين أعني به الشيعة، وكأنه لا يوجد أميون سنة.. لا أدري ما الذي جعلهم يذهبون إلى ذلك! راح أحدهم يذكرني بالدكتور الوردي كدليل على ثقافة الشيعة، وكأنني في حاجة إلى من يذكرني بأن جل من أنجبهم العراق الحديث من نجوم الشعر والعلم كانوا من الشيعة.

هذا موضوع خضته طيلة حياتي كداعية للديمقراطية. وكنت في ذلك أردد ما قاله جل المفكرين من أيام سقراط حتى الآن، وهو أن الديمقراطية قد تصبح حكم الغوغاء. ولاتقاء ذلك لا بد من حصرها في المتعلمين. هذا في الواقع ما طبقه الغربيون حتى أواخر القرن التاسع عشر عندما أطلقوها لجميع الذكور بعد أن أصبح التعليم الإلزامي ساريا وفعالا، ولم يعد هناك أميون في البلاد. ولم تحصل المرأة على حق التصويت إلا بعد الثلاثينات من القرن الماضي. لا أدري كيف يمكن لأي عاقل أن يتصور فلاحة أمية ترعى الجاموس في أهوار العراق تفهم شؤون السياسة المالية والاقتصادية العالمية والوطنية لتعطي صوتها لمن تعتبره أصلح لها وأقدر! من يتصور ذلك ويسمح به هو والله الجاهل والأمي!

تجاوز هذه الحقيقة هو ما أوقع الديمقراطية في العالم الثالث في الفشل. رحنا نسمع الغربيين يقولون إن الإسلام لا يستوعب الديمقراطية، وإن المسلمين غير صالحين لها. ما لم يقولوه وقلته أنا هو أن الأميين لا يصلحون لها، شرقيين أو غربيين، مسلمين أو غير مسلمين. من الضروري لمستقبل الديمقراطية حصر حق التصويت في المتعلمين، مثلا خريجي الدراسة المتوسطة.

لم يخطر على بالي قط أن ما قلته أقصد به الشيعة، بل ولا حتى العراق. إنني رجل عولمي والعراق والعالم العربي كله ليس غير نقطة بالنسبة إليّ من هذا العالم الواسع. هذه مشكلة تخص الديمقراطية في كل البلدان المخالفة، وغير المتخلفة أيضا، وهي ألا تصبح حكم الرعاع.

كنت أبحث ذلك مع الزميل الدكتور فاروق رضاعة على هامش ما كتبه في «إيلاف» بأن الحكومة العراقية خصصت للتعليم نسبة تقل عما خصصته سائر البلدان العربية الأخرى. لم ذلك؟ لم نستطع أن نتفادى هذا الانطباع.. وهو أن نواب المجلس والمسؤولين نالوا مقاعدهم بفضل أصوات الجهلة والأميين. ومن باب الإنصاف والاعتراف بالفضل وجدوا من واجبهم رد الجميل بالجميل بحماية جهلهم وأميتهم وإبعادهم عما يسببه التعليم والثقافة من وجع رأس في بلد لم يعد فيه مكان للفكر والثقافة!