تونس وطفرة التاريخ

TT

يا له من تسارع مدهش لحركة التاريخ! فلم ينقض شهر كامل على حرق محمد بوعزيزي لنفسه في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) حتى هرب بن علي يوم 14 يناير (كانون الثاني): أقل من شهر! إنه لحدث مذهل حقا. وهو يرينا، ولو بشكل مباغت، كيف يحقق شعب بأسره رغبته على مسرح التاريخ. إنه انتصار جميل لأنه عادل، وعادل لأنه جميل.

إن هذه الحلقة الاستثنائية من حلقات التاريخ كانت مفعمة بإخراج مسرحي محلي وشبابي خالص. كانت مفعمة بالبراءة والعفوية. إنها ثورة تحققت أساسا بواسطة الإنترنت. ولذلك فإن سرعتها كانت متناسبة مع سرعة ثورة المعلوماتية التي قلصت الزمان والمكان. وهكذا فنحن نمتلك منذ الآن فصاعدا بفضل ثورة الياسمين هذه تجسيدا جديدا للزمن في التاريخ. وهذا التاريخ سوف يخضع منذ الآن فصاعدا لتكثيف ناتج عن طفرة إحداثيات الزمان والمكان. لقد عشنا لحظة تاريخية تدمج المجهول في المعلوم بثانية واحدة، وتقلص البعيد لكي يصبح قريبا. ومن الآن فصاعدا فإن البشرية سوف تكيّف بواسطة تكنولوجيا المعلوماتية على أفق قدرها ومصيرها ذلك المفهوم اللاهوتي للإله المحيط بكل شيء. وسوف تعيشه يوميا ولحسابها الخاص. فهل الإنترنت أصبح محيطا بكل شيء؟

إن هذه الواسطة الجديدة، أقصد الإنترنت، هي حيادية من الناحية الموضوعية. أقصد بأنه ليست لها أي نية مسبقة بحد ذاتها لا في هذا الاتجاه ولا في ذاك. وبالتالي فعنها يمكن أن يصدر الخير والشر، الأفضل والأسوأ. فالإنترنت لا يفعل إلا أن يخضع لرغبة مستخدميه، وكذلك التكنولوجيا الحديثة. وفي بدايات هذا القرن الحادي والعشرين أتانا من العالم الإسلامي أسوأ وأفضل حدثين ناتجين عن الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة. أقصد بالأول جريمة 11 سبتمبر (أيلول) النكراء المنفذة من قبل جماعة القاعدة، وبالثاني ثورة الياسمين المباركة. هكذا أصبحت ثورة المعلوماتية ترافقنا كأنفاسنا، كدقات قلوبنا. وهكذا شهدنا سقوط ديكتاتور وتوصل شعب بأكمله إلى الحرية في ظرف أيام معدودات. إنه شعب ذاهب إلى تجسيد الديمقراطية في منطقة معتبرة من قبل خبراء الغرب وكأنها تستعصي على الديمقراطية. أقول ذلك وأنا لا أبالغ في قيمة هذه الصيغة من صيغ الحكم ولا أزينها بالماكياجات ولا أحولها إلى أسطورة. ولكن على الرغم من كل نواقص الديمقراطية فإنها تظل أفضل صيغة سياسية لتنظيم العيش المشترك. إنها الصيغة الوحيدة التي تسمح بالتعددية والحوار والاختلاف ومناقشة الصديق والعدو مع المحافظة على التهذيب أثناء النقاش وضمن حدود العقل. نعم إن النظام الديمقراطي هو الذي يتيح لنا أن نتعامل مع بعضنا البعض عن طريق الحوار والمحاججات الفكرية ومحاولة الإقناع بواسطة الكلمات لا الرصاصات. إنها النظام السياسي الوحيد الذي يؤمن لنا فضاء سياسيا مفتوحا للتعبير عن أفكارنا بكل حرية دون خوف على أجسادنا أو أرواحنا.

ضمن هذا المنظور ينبغي أن نفهم ما حصل في تونس مؤخرا. هذا الحدث ينبغي أن نموضعه على مستوى زمن العالم. لا ينبغي أن نختزله إلى تصنيفاتنا العتيقة البالية التي تقسم العالم بشكل قاطع ونهائي إلى مناطق حضارية ومناطق متخلفة. إن صمت المثقفين والسياسيين الفرنسيين لا يمكن فهمه إلا على ضوء الطابع المذهل والمباغت والتدشيني لهذا الحدث التونسي الكبير. وضمن هذا المنظور يمكن فهم هذا الصمت وتبريره ولكن خلال الأسبوعين الأولين فقط من ثورة الياسمين. أما بعد ذلك فيصعب فهمه أو تبريره. فالمأساة التي ابتدأت في ذلك المكان النائي الهامشي الذي يدعى سيدي بوزيد يمكن تشبيهها بإحدى ثورات الجوع التي سرعان ما تندلع وتنطفئ في أنظمة ديكتاتورية تنتمي إلى عالم آخر، بعيد، أجنبي، غريب، مختلف، متموضع داخل بنية اقتصادية أخرى (عالم سوء التنمية)، وثقافة خصوصية أخرى غير قابلة للاندماج في حضارة الغرب (أي مناطق الإسلام وأفريقيا). ويمكن أن نموضع هذا الصمت ضمن منظور الوصاية الأبوية المتعجرفة للمستعمر السابق الراضي عن مستعمرته السابقة لأنها نجحت اقتصاديا في تأمين الحياة المادية لرعاياها.

كل هذا وارد. ولكن استمرارية صمت المثقفين الفرنسيين أصبحت لا تغتفر بعد تواصل ثورة الياسمين وديمومتها قرابة الشهر. فبعد أن رأينا مظاهراتها وسمعنا شعاراتها: حرية، عمل، كرامة، أو: بن علي ارحل! بعد أن قرأنا كل ما كتب عنها هنا أو هناك، لم يعد صمت هؤلاء المثقفين يحتمل ولا يطاق. كيف يمكن تفسير هذا الصمت؟ ما فحواه ودلالته؟ هل هو ناتج عن اللامبالاة بتونس وشعبها؟ أم أنه لا يزال يعبر عن تقسيم العالم إلى مركز وأطراف تابعة؟ ومعلوم أن المركز (أي الغرب) هو الذي يقرر فيما إذا كان حدث ما مهما أم لا. والهوامش ما عليها إلا أن تنصاع للأوامر الصادرة عن السيد المركز.

أعتقد أن أحداث تونس ينبغي أن تجنبنا الوقوع في خطأين شائعين هما خطأ الوصاية الأبدية للمستعمر السابق، وخطأ الفكر المهيمن الذي يقسم العالم إلى مركز وأطراف هامشية تدور في فلكه. إن الثورة التي كان مسرحها ما دعاه الرومان سابقا بأفريقيا قد دشنت من قبل شخص فقير أشعل النار في جسده وضحى بنفسه. وقد حصل ذلك في ولاية سيدي بوزيد التي هي هامشية في تونس نفسها فما بالك بالنسبة لفرنسا؟! وبالتالي، فإن الثورة انطلقت ليس من الهامش وإنما من هامش الهامش. ثم توسعت بعدئذ بفضل الإنترنت ووسائل المعلوماتية الحديثة، أي عن طريق الفضاء المفتوح الذي يستطيع تحويل أي هامش إلى مركز.

إن ما جرى في تونس يخربط كل مقولاتنا وتصنيفاتنا المعهودة. إذا ما أردنا أن نفهم العالم كما هو أو كما أصبح، إذا ما أردنا أن نتموضع فيه بالطريقة الأفضل، فإنه ينبغي علينا منذ الآن فصاعدا أن نحسب الحساب لهذه الأداة الفعالة التي حولت المراكز إلى أطراف، والأطراف إلى مراكز. إنها أداة لا وطن لها ولا أرض محددة؛ اللهم إلا الفضاء المفتوح للعالم كله. هناك علاقة وثيقة إذن بين ثورة الياسمين وثورة المعلوماتية. وينبغي أن نعترف بأنه جاءنا من تونس الصغيرة، التي لا تحظى عادة باهتمام القوى العظمى، حدث خطير يدل على تحول نوعي في التاريخ. ولكي نعي هذا الدرس التونسي جيدا فإنه ينبغي علينا الخروج من هذه الحتمية التي تموضع الغيرية داخل اختلاف راديكالي. ينبغي أن يدخل محمد بوعزيزي هذا الإنسان الشهيد في مخيالنا الجماعي تماما كما دخل إيان بالاش الذي دشن ربيع براغ عن طريق حرق نفسه أيضا. ولكن فيما وراء هذه الأحداث بأفقيتها العربية وعمقها الأفريقي ينبغي أن نرى بعدها العالمي الكوني. لقد كانت هذه الثورة هادئة، ذات كرامة، واثقة من نفسها، سلمية، مسؤولة، مطبوعة بطابع النضج. وإذا ما نظرنا إليها في سياقها الجغرافي والثقافي فإنها سوف تشكل الوعد الجميل للشعوب والكابوس المخيف للطغاة المستبدين. سوف تلقنهم درسا لن ينسوه. ولكن إذا ما نظرنا إليها من زاوية الكونية العالمية فإنها تؤكد لنا الحقيقة التالية: وهي أن كل شعوب الأرض ترغب في الديمقراطية والحرية. لهذا السبب أقول بأن ما يحدث في تونس اليوم ينبغي أن يحظى بتضامننا ودعمنا الفعال. نقول ذلك وبخاصة أن المناقشة الكبرى حول الوضع التونسي سوف تندلع قريبا بين مختلف التيارات. وبالطبع فإن الأطروحات المتشددة سوف تكون موجودة وستعبر عن نفسها لا محالة. ولكننا سوف نمتلك الوسائل الفكرية والسياسية لمواجهتها وتحييدها وإيقافها عند حدها.

* كاتب وأكاديمي تونسي