معركة غير متكافئة

TT

العدو الأول في هذه الدنيا بالنسبة لي هي البعوضة أو (الناموسة)، وليس إسرائيل، فما أن أسمع صوتها، حتى ولو لم تقرصني، يصيبني هياج شديد، وفي الليلة البارحة آويت إلى فراشي باكرا على أمل أن أصحو من الفجر للحاق بموعد في منتهى الأهمية عندي. وما إن أطفأت النور مهيئا نفسي للأحلام السعيدة، وإذا (بطنينها) حول أذني، فاعتدلت وأخذت أضرب (خبط عشواء) بالهواء وأصفق لا شعوريا. لعدّة دقائق، وظننت أني قضيت عليها، وزيادة بالحيطة وضعت اللحاف على رأسي كله ولم أترك إلا فتحة صغيرة ليعبر منها الهواء لمنخاري، ساد الهدوء فترة وبدأت أجفاني تثقل، وفجأة وإذا (بالملعونة) تكاد أن تقف على أرنبة منخاري، عندها لم أملك إلا أن أنزع اللحاف وأشعل النور وأقف في وسط الغرفة كالمذهول أبحث عنها لاصطيادها، ويبدو أنها أذكى مني بمراحل فكانت تقترب مني وما إن تشاهدني أمد يدي نحوها حتى ترتفع صاعدة للسقف، وبقيت على هذا المنوال معها عدّة دقائق وأنا أقفز وأصفق وأصرخ، وهي تطن وتلف حولي (السبع لفاّت).

وفجأة سمعت قرعا على الباب، وإذا بالعاملة المنزلية تمد رأسها من خلال الباب الموارب، تسألني معتقدة أنني أناديها وأصفق لها، فنهرتها قائلا: هل أنت بعوضة هل أنت ناموسة؟! فتركتني في معاناتي وذهبت، ووجدت أن معركتي سوف تطول، فتركت للناموسة غرفتي كلها، وأخذت لحافي ومخدّتي وذهبت إلى الصالون وتمددت على الكنبة مسمّيا بسم الله الرحمن الرحيم، غير أني ما أن بدأت أغط وأشخر، على ما أعتقد، وإذا بها تحط على جبيني، وشعرت بوخزتها فخبطت بيدي جبهتي فأخطأتها، ولم ينبني من تلك الصفعة غير ارتجاج رأسي، وهببت واقفا مرّة أخرى وأشعلت الأنوار وأخذت أطاردها قفزا وتصفيقا وصياحا. والحقيقة أنني متعود على هذا الأسلوب عندما أشاهد مباريات كرة القدم، فإذا ما تحمست وأردت أن أصفق لا بد أن يلازم ذلك شيء من القفز والصراخ فأصبحت هذه عادة.

وبينما أنا منهمك في هذه (الملحمة) أو المعركة المصيرية بالنسبة لي، وإذا بي ألمح العاملة المنزلية ترمقني من بعيد وهي تلطم متهولة ومحتارة، على مخدومها المخبول هذا الذي شاهدته بهذا الوضع المزري، أولا في غرفة النوم، والآن ها هو في الصالون، وكأنه (الدونكيشوت) يحارب طواحين الهواء. تلصصت علي برهة ثم رأيتها تولي الأدبار هاربة دون أن تتفوه بأي كلمة، ولا أستبعد إطلاقا أن المسكينة قد قرأت على نفسها (المعوّذات).

المشكلة أن لدي حساسية مفرطة من (الفليت) وإلا كنت قد استعملته كسلاح فعال للذود عن حياضي.

لم أنم في تلك الليلة المشؤومة ولا حتى ساعة واحدة على بعضها، وذهبت إلى موعدي متنكدا، (وزاد الطين بلّة) أن الأمور في ذلك الموعد أو الاجتماع لم تكن في صالحي على الإطلاق، وكأنني ناقص غلب.

وما إن عدت حتى رحت أبحث في (غوغل) من شدّة قهري من ذلك الكائن المفترس. فعرفت أن انطفاء النور في البيت أشبه عندها بجرس يدق، إيذانا بحلول موعد تناول الطعام، وهي مزودة بحاسة شم قوية، وحاسة لمس أشبه (بالرادار). والأدهى والأمر أن إناث البعوض وحدها هي التي تلدغ، أما الذكور (يا حبة عيني) فهي بحكم تكوينها الطبيعي ليست مهيأة للدغ، ولكنها غالبا تتبع الإناث حيثما تذهب.

يعني يا سبحان الله اكتشفت أن عالم البعوض مثله في هذه الناحية مثل عالم الإنسان سواء بسواء.

ومثلما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، أقول: لو أن البعوضة كانت امرأة (لفعصتها).

[email protected]