التكامل الاقتصادي العربي.. حينما يسبق القطاع الخاص الحكومات

TT

مع دخول العشرية الثانية من القرن الحالي يواجه العالم العربي تحديات اقتصادية جديدة، متسارعة ومتلاحقة وحادة متقلبة - تعيد طرح عدد من التساؤلات تفرضها بشدة أجندات محلية وإقليمية ودولية، مثل: ما هو مستقبل التعاون الاقتصادي العربي، لماذا فشلنا على مدى 50 عاما أو يزيد في تحقيق طموحاتنا في سوق عربية مشتركة أو تكتل اقتصادي عربي يجني ثماره المواطنون العرب بينما نجح الآخرون؟ هل هناك - على الساحة - من تطورات جديدة تجعلنا أكثر ثقة في تحقيق الطموحات والآمال على صعيد العمل الاقتصادي العربي المشترك؟

إجابة هذه التساؤلات تحتاج إلى خلفية تاريخية كمدخل للوصول إلى الإجابات الموضوعية.. فحلم التكامل الاقتصادي العربي ولد منذ ولدت جامعة الدول العربية وما صاحب هذا المولد من زخم نحو أمة عربية واحدة وعمل عربي مشترك في شتى المجالات، ومن ذلك التطلع نحو سوق عربية مشتركة أو تكامل اقتصادي عربي.

ولكن حجم ما تحقق وما تم إنجازه خلال تلك الحقبة - على صعيد العمل الاقتصادي - ضئيل بكل المقاييس.. فهو أقل بكثير من حجم الطموحات والآمال، وأقل بكثير من حجم الإمكانات والقدرات والطاقات وهو أدنى وأقل مما حققته تجمعات إقليمية أخرى رغم اختلاف أنظمتها السياسية وأمزجتها وهويتها الثقافية واللغوية ووجود كثير من الاختلافات الجوهرية بين دول هذه التجمعات مثل الآسيان والاتحاد الأوروبي والميركسور والنافتا.

ولكن كيف ولماذا نجح الآخرون وفشلنا نحن أو لم نستطع أن نحقق من النجاح ما هو مأمول أو ممكن؟

الحقيقة أن التجمعات الإقليمية مثل الآسيان والاتحاد الأوروبي، وغيرها، حرص الجميع فيها على تجنب المشكلات والسعي بعزيمة واقتناع نحو تبادل المصالح والمنافع من خلال التكامل والاندماج.

وكانت النتيجة أن حققت هذه التجمعات طفرات ملحوظة في التجارة البينية والاستثمارات المشتركة، بينما تخلفت عن الركب المنطقة العربية.. فمثلا حجم التجارة البينية في دول الاتحاد الأوروبي وصل إلى نحو 63% من تجارة الاتحاد الأوروبي وتجمع الآسيان نحو 25% والنافتا نحو 39% والميركسور نحو 16%، بينما لم تتجاوز التجارة العربية البينية معدلات 12%، رغم أن الدعوة إلى السوق العربية المشتركة بدأت منذ نحو 60 عاما، وهذا يعني بوضوح أن ما تم اتخاذه من إجراءات على أرض الواقع العملي في المنطقة العربية كان أقل بكثير مما هو مطلوب أو مما فعلته تجمعات اقتصادية أخرى.

والأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة غير المرضية على صعيد العمل الاقتصادي العربي المشترك خلال هذه الحقبة مقارنة بتجمعات اقتصادية أخرى يمكن رصدها في الآتي:

أولا: على صعيد العمل العربي المشترك منذ 60 عاما أو يزيد طغت الأجندة السياسية بمشكلاتها وتشابكاتها على أية أجندات أخرى وجاءت على حساب المضي قدما في ملف التعاون الاقتصادي العربي، وبذلك كانت الأولوية للقضايا والملفات السياسية على حساب التعاون الاقتصادي.

ثانيا: اختلاف الأنظمة الاقتصادية في الدول العربية خلال هذه الحقبة، فبعض الدول كانت تنتهج الاقتصاد الاشتراكي أو الموجه وغيرها اتبعت الاقتصاد الحر والبعض الآخر كان اقتصادا هجينا يجمع بين كل ما هو موجود من مدارس اقتصادية.

وبالتالي حينما اختلفت التوجهات تباينت أيضا الاتجاهات، فلم يكن هناك أي اتفاق على اتجاه واحد أو منهج أو آلية للتلاقي والتشابك في العمل الاقتصادي.

ثالثا: غابت الأساسات التي يبنى عليها أي تكتل اقتصادي إقليمي وأهمها القطاع الخاص القوي الذي يتحرك ويمتد إقليميا من خلال كيانات أو شركات إقليمية، وبالتالي مكثنا نتحدث ستين عاما عن تعاون اقتصادي إقليمي دون وجود مؤسسات أو شركات قادرة على حمل هذا الكيان الإقليمي سواء فيما يتعلق بتجارة بينية أو استثمارات مشتركة.

... هل هناك أمل؟

ولكن إذا كان الأمر كذلك؛ طموح وآمال في تكامل اقتصادي عربي ظلت تراوح مكانها على مدى 60 عاما مع افتقاد أية مؤسسات أو أساسات على أرض الواقع لتشييد هذا البناء الضخم.. هل هناك من أمل في تغيير هذا الواقع في المرحلة المقبلة.. هل هناك متغيرات إيجابية طرأت تدعو للتفاؤل؟

الحقيقة أن هناك متغيرات اقتصادية كبيرة حدثت خلال السنوات العشر الأخيرة أي منذ بدء الألفية الجديدة وهناك تطورات هائلة طالت العالم كله على الصعيد الاقتصادي ومنها المنطقة العربية، ولحسن الحظ أنها كانت إيجابية أو مواتية لتفعيل التعاون الاقتصادي العربي.

فبالنسبة للسياسات والتوجهات الاقتصادية للدول العربية.. سادت لغة اقتصادية تقريبا واحدة في كل الدول العربية أو معظمها تتحدث عن الاقتصاد الحر واقتصاد السوق والقطاع الخاص ودوره في التنمية وبالتالي أصبح هناك توجه عربي نحو اقتصاد السوق، أي هناك طريق واحد أمام الجميع.

على صعيد آخر بدأت الكيانات (الأساسات الحاملة) للتكتل الاقتصادي تظهر في المنطقة العربية والمتمثلة في شركات إقليمية سعت حثيثا نحو التوسع الإقليمي بل والعالمي، مستعينة بخبرات إدارية وتكنولوجية على مستوى عال.

وهذه الشركات تضع في أولوياتها التصدير لدول المنطقة العربية، كما أن هناك بعض الشركات تضع سياسات استثمارية تشمل المنطقة بالكامل، وهذا التوجه أدى إلى نتائج إيجابية متعددة في المرحلة الأخيرة بالنسبة للتجارة العربية البينية والتي ارتفعت إلى معدلات تتراوح بين 8% إلى 12%، أي ارتفعت بنسبة 50% تقريبا خلال 10 سنوات من حيث الحجم مع ارتفاع كبير جدا في القيمة من 73 مليار دولار عام 2000 إلى نحو 254 مليار دولار عام 2009، أي تضاعفت قيمة التجارة البينية العربية أكثر من ثلاث مرات، وأيضا فإن الاستثمارات العربية المشتركة زادت بشكل كبير في المنطقة العربية، فقد ارتفعت من ملياري دولار فقط عام 2000 إلى نحو 35 مليار دولار عام 2008 قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث انخفضت حاليا إلى نحو 20 مليار دولار، وهذا يعني أن الاستثمارات تضاعفت بنحو من 10 إلى 15 ضعفا، وهذا مؤشر إيجابي، ويرجع إلى الشركات الإقليمية العربية التي سعت وتحركت بصورة سريعة في المنطقة العربية وحركت منظومة التعاون الاقتصادي العربي بخطوات كبيرة إلى الأمام.

وهناك أيضا مؤشر إيجابي آخر في المنطقة يتمثل في أن القطاع الخاص أصبح دوره هو الأساس في عملية التنمية في المنطقة، فكل الاقتصادات الكبرى في المنطقة يمثل القطاع الخاص اللاعب الأساس فيها، وصاحب ذلك أن كثيرا من الدول العربية تسير في اتجاه اقتصادي واحد، فمعظمها انضمت إلى منظمة التجارة العالمية مثل السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر وسلطنة عمان وتونس والأردن والمغرب ومصر، ويتفاوض حاليا عدد من الدول للانضمام إلى المنظمة مثل سورية والجماهيرية الليبية واليمن، والانضمام لمنظمة التجارة العالمية يعني أن توجهات الاقتصادات العربية ستستمر على الاتجاه نفسه في الفترة المقبلة وهو اقتصاد السوق. وعلى مستوى الحكومات والشعوب العربية فإن الحديث عن المستقبل تصاحبه رغبة شديدة في الوصول إلى تكامل اقتصادي حقيقي بين الدول العربية، ولكن هذه الرغبة وذلك الاقتناع يواجههما تردد كبير وذلك لأن التحدي الحقيقي في هذه العملية هو أن تقبل الحكومات العربية التنازل عن بعض سيادتها (الوطنية) للمنظومة الإقليمية، وهذا هو الأساس، بل والمحك الحقيقي، لتنفيذ أي منظومة أو تكتل إقليمي، بمعنى أن تنفيذ أي سياسات اقتصادية إقليمية لا بد أن تصاحبه تنازلات من قبل الحكومات عن بعض من سلطاتها المحلية، فعندما تتحدث عن محكمة اقتصادية عربية أو صندوق عربي لتأمين مخاطر الاستثمار أو حتى نظام عربي للتحكيم في المنازعات أو توحيد نظم المواصفات والإجراءات المستندية للإفراج عن السلع والبضائع، فإن هذا يعني أن يتناقص دور السلطات المحلية للدولة، ويعني أيضا عدم اتخاذ أي إجراءات أو توجهات على مستوى الدول تخالف هذا النظام الجماعي، ومن الناحية الاقتصادية فإن مثل هذه الإجراءات تكون إيجابية جدا على مناخ الاستثمار والتنمية في كل دول المنطقة، وبالتالي يجب على الدول العربية قبوله سياسيا.. ولكن هناك تردد سياسي من الدول والحكومات العربية في قبول هذه المعادلة استمر لفترة طويلة وهو السبب الجوهري في تخلف وتأخير العمل الاقتصادي الجماعي العربي حتى الآن، فرغم أن الدول العربية ترغب بشدة في التكامل الاقتصادي، فإنها ليست مستعدة لدفع الثمن في صورة تنازلات عن بعض من سيادتها وسلطتها المحلية في بعض القرارات والإجراءات الاقتصادية، ولكن على الجانب الآخر تحرك رجال الأعمال والشركات سريعا خلال هذه الفترة واستطاعوا - رغم كل الظروف - أن يمدوا نشاطهم وأعمالهم في أكثر من دولة وبمفهوم إقليمي يتأقلم في الوقت نفسه مع الظروف والمناخ في الدول العربية المختلفة، وهكذا سبق القطاع الخاص العربي الحكومات العربية في العمل الاقتصادي الجماعي.

وهناك عنصر آخر ظل لفترة طويلة يعوق بشكل كبير التكامل الاقتصادي العربي، وهو عدم القدرة على التعامل مع التفاوت في مستوى الاقتصادات العربية على الرغم من أن التكتلات الاقتصادية الأخرى تعاملت بنجاح مع هذا التفاوت، فبالنسبة للجماعة الأوروبية تضم دولا أكثر ثراء وتقدما في قطاعات اقتصادية معينة، وهناك دول أقل بكثير ولكنها استطاعت أن تضع منظومة تتعامل مع هذه الاختلافات، وكذلك تجمع النافتا في أميركا الشمالية.. هناك فرق رهيب في مستوى الاقتصاد في المكسيك والولايات المتحدة سواء من حيث الأداء أو القوة والإمكانات، ومع هذا نجح تجمع النافتا في تنفيذ قدر كبير من التكامل الاقتصادي، والشيء نفسه في آسيا، فهناك اليابان مع فيتنام وتايوان وكوريا والصين في تجمع اقتصادي (الآسيان) رغم التفاوت في مستوى الاقتصادات، وكل هذه الدول مرت بعدة مراحل للتطور الاقتصادي.

وبالنسبة لنا في المنطقة العربية فإن التحدي الذي يجب أن نتغلب عليه هو أن نقبل التعامل في إطار منظومة التكامل الاقتصادي العربي ليس بالتساوي، ولكن كلٌ حسب تطوره في المنظومة الاقتصادية ونقبل أيضا فكرة التدرج في هذا الموضوع.. بشرط أن يكون هناك التزام من الدول العربية بأن تتحرك في هذا المسار بالتزام شديد وبصورة منظمة وواضحة.

فكل الدول في التجمعات الاقتصادية الأخرى يجمعها هدف وتوجه اقتصادي - وليس سياسيا - ولكن على صعيد العمل الاقتصادي العربي الجماعي بدأنا بمفهوم أن كل الدول العربية مشتركة في منظومة التكامل الاقتصادي وبالتالي انضمت دول غير مستعدة أو متوافقة مع منظومة العمل الاقتصادي والاجتماعي، ولكن الأفضل أن يكون المبدأ هو من حق كل دولة عربية الاشتراك في المنظومة (فقط مجرد حق الاشتراك).. ولكن الوجود الفعلي لأي دولة عربية داخل منظومة التكامل الاقتصادي العربي لا بد أن يكون مرتبطا بشرط التزامها بكل القرارات التي تصدر - من خلال هذه المنظومة - في الجوانب الاقتصادية.

وتتضح هذه الإشكالية من خلال هذا النموذج: لدينا اتفاقية التيسير العربية.. ورغم تدرجها في التعامل مع اقتصادات الدول العربية الفقيرة أو غير المتقدمة اقتصاديا.. فهناك بعض الدول العربية لا تلتزم بمقررات اتفاقية التيسير ولا تزال تمارس حقوق العضوية كاملة، بل إنها تقوم بتعطيل أي إجراءات للمضي قدما، ورغم عدم التزامها بأي اتفاقات في الماضي أو الحاضر فإنها تمارس حقوق العضوية (المجانية) بدون أي التزامات بل وتعطل الآخرين.

ومن هنا يجب أن يكون هناك تدرج واضح في الالتزامات يلبي التفاوت في مستوى الاقتصادات العربية في إطار منظومة العمل الاقتصادي العربي الجماعي، ولكن في المقابل يجب ألا يكون هناك إلزام لأي دولة بالاشتراك في منظومة العمل الاقتصادي العربي ما دامت غير قادرة على الوفاء بشروط والتزامات الانضمام لهذه المنظومة.

* * *

ورغم هذه التحديات الكبيرة أمام منظومة العمل الاقتصادي العربي الجماعي في الفترة المقبلة، فإنني - شخصيا - متفائل بما يحدث على أرض الواقع من مؤشرات إيجابية، سواء من حيث زيادة التجارة البينية العربية ومن حيث زيادة الاستثمارات، ويظل أمامنا حزمة من التحديات الكبرى فيما يتعلق بمنظومة التنمية البشرية والبنية التحتية والربط بين شبكات النقل والمواصلات والكهرباء، وكل هذه التحديات يمكن التغلب عليها وتجاوزها بقليل من الحلول الابتكارية والمبادرات الحسنة والمدروسة والتي يمكن من خلالها تحويل كل هذه التحديات إلى فرص كبيرة للاستثمار وفرص كبيرة للإبداع والنمو وفرص واعدة لحشد الإمكانات والطاقات العربية الكامنة وتوجيهها نحو التنمية الشاملة من خلال منظومة عربية للعمل الاقتصادي الجماعي.

* وزير التجارة والصناعة المصري