من النظام الرئاسي إلى الرئاسة الدستورية

TT

ما زال التحليل السياسي، عندنا، عاطفيا. إنشائيا. سيرياليا (فوق العقل. والواقع. والحقيقة). الفرحة الغامرة بالتغيير في تونس جعلتنا نتصور أن هناك ثورة. في تونس، هناك مجرد انتفاضة فجائية. احتجاج شعبي ضد لا مبالاة نظام بلا قلب. ورئيس بلا خيال.

في أول مقاربة مع التغيير في تونس، قلت إنه حركة بلا سياسة. بلا آيديولوجيا. بلا زعامة. الثورة شيء آخر مختلف تماما. الثورة سياسة. آيديولوجيا. تخطيط. بل هي فلسفة. هي ثورة طبقة ضد طبقة أو طبقات. ما حدث في إيران الخميني كان ثورة، وإن كانت إلى الوراء. حتى انقلاب عبد الناصر كان مجرد حركة عسكرية مسلحة. لم تتحول إلى ثورة، إلا عندما فلسف عبد الناصر مضمونا قوميا. اشتراكيا لها. وحاول تطبيقه.

الثورة حالة معدية. الانتفاضة التونسية أثارت اهتماما عربيا واسعا. لكن لأنها ليست بثورة، فالعدوى بها غير متوفرة. نظرية السقوط بالتتابع (دومينو) غير واردة. النظام التونسي الراحل يختلف في الرؤية. الممارسة. القاعدة، عن النظام المصري. السوري. العراقي. الفلسطيني. الجزائري.

في الانتفاضة التونسية، استردت المؤسسة العسكرية العربية الاعتبار والاحترام، من المؤسسة الأمنية. رفض الجيش تأييد وحماية النظام. اصطدم بجهاز قمعي يضم 130 ألف عنصر. بالإضافة إلى ميليشيا رئاسية مخيفة. المراقب السياسي الذي يعرف، يستطيع القول إن الجيش في سورية لن يتخلى عن حماية النظام، سواء حدثت ثورة. أو انتفاضة. ما دام الجيش في الخدمة، فنظام بشار في أمان واستقرار.

لكي لا يفكر الجيش في ليبيا، في دعم انتفاضة. اتهمته العائلة الحاكمة بالفساد. شوهت سمعته. في الجزائر، الجيش ظِلُّ النظام. في مصر، هناك قوة أمن هائلة، تُغني عن إنزال الجيش إلى الشارع لقمع انتفاضة. الجيش المصري من الوعي، بحيث يدرك مصاعب التدخل. أو الاستيلاء على السلطة، في عصر بات يرفض السلطة العسكرية، ويحيِّد مفهومُ الحكم المدني المؤسسةَ العسكرية في العالمين المتقدم والمتخلف.

أكبر دليل على الانتفاضة، أن رموز الحزب التاريخي الحاكم في تونس، بقيت على رأس حكومة التغيير. المعارضة التونسية الواعية قبلت بهذا الواقع. لأن بيروقراط الحزب ما زال يدير الدولة والإدارة. كان من الخطأ أن يستقيل رئيس الوزراء محمد الغنوشي ووزراؤه من الحزب الحاكم. كان عليهم الاستقالة من الحكم. ربما يتم انسحابهم من الحياة السياسية، بعدما يقوم رجال التغيير في الحزب بتطهيره، واستبعاد الرموز التي تعاونت مع الرئيس زين النظام.

الأحزاب التاريخية لا تموت. التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس حزب تاريخي. له إنجازات. وله سلبيات. البعث حزب تاريخي. لا يمكن استئصاله واجتثاثه، كما يتخيل أستاذ جامعي، كأحمد الجلبي! كان من الأفضل إعطاء قيادته، بعد «اجتثاث» صدام وبطانته التكريتية، الفرصة لتطهيره. وتقديم بعث ديمقراطي جديد.

الثورات لا تملك صبرا. الصبر يجب أن يكون من صنع الانتفاضة. لتصبر الانتفاضة الشعبية التونسية، لترى كيف يمكن لديمقراطية المشاركة (الحكومة الجديدة) أن تحقق وعودها: عفو عام. تعددية سياسية. ديمقراطية نيابية (خلال 6 أشهر). إفراج عن معتقلين. مكافحة الفساد. استعادة المال.

كسب النظام الجمهوري العربي معركة الأمن ضد الإسلام السياسي و«الجهادي». أوتوقراطية النظام حولت جهاز الأمن إلى جهاز قمع. في الصدام مع السلطة، ساهم الإسلام الجهادي والتكفيري في تأجيل المشروع الديمقراطي.

أوتوقراطية النظام التونسي القمعية منعته من تشكيل قاعدة شعبية. كيف أغفل رئيس بقبضة من حديد، امتلاك قفاز من حديد؟ لماذا لم يحتضن زين النظام هذه الشريحة الاجتماعية الشابة التي تمردت عليه؟ شريحة قوية. حيوية. جامعية. واعية. غير مسيَّسة. غير مؤدلجة. غير أسيرة لآيديولوجيات يسارية. أو غيبية.

هذه الشريحة متوفرة في كل مجتمعات النظام الجمهوري العربي. إذا كانت من عبرة، في انتفاضة هذه الشريحة في تونس، فلعل النظام الجمهوري يسارع إلى احتضانها. الثقة بها. يجعلها قاعدة شعبية له. يحترم كرامتها. يوفر لها عملا. وأملا. يداوي مرارتها إزاء إدارة حكومية مترهلة. غير مبالية بتوفير سكن. عمل. ضمانات. فهي شريحة غير مخيفة. بلا لحى مشذبة (إخوانية) أو لحى متناثرة (جهادية).

مع ارتفاع شعار التعددية، تعود الإسلامية الغنوشية (نسبة إلى زعيمها التاريخي راشد الغنُّوشي) من صحراء الهجير إلى جنة الوطن. ها هي ترفع سلفا شعار الاعتدال. بل تتعهد بمصالحة الشريعة مع الديمقراطية. كأن الناس تنسى أن الغنوشية رفعت في الماضي شعار العنف. شعار أسلمة المجتمع بالإكراه. عبر ثقافة التلقين في المدرسة. والإعلام. والإنترنت. بذلت حماس الوعود ذاتها. ثم حولت غزة إلى إمارة إخوانستان.

حقا، النظام الجمهوري العربي في أزمة حكم. الحل في فصل النظام عن الدولة. الحريات في دستور الدولة أجهضتها قوانين النظام. دساتير متقدمة. وقوانين عُرفية بالية. استثناءات ضخمة. فساد مروِّع. مخالفات خطيرة للدستور. في انعدام حرية الصحافة. والسياسة. والقضاء. وفي غياب المحاسبة. والمساءلة. والعقوبة، تراكمت الأخطاء، بحيث بات النظام الرئاسي غير مستعد لتغيير قيادته، خوفا من محاسبتها. راح النظام يجدد. يمدد. ثم خطط لكي يورِّث. ضمانا لحماية حصانته من عوادي الأيام والأزمان.

لست ضد التمديد. أو التوريث، إذا توفرت ضمانات دستورية عملية، تحول دون استغلال النفوذ، منذ بداية الطريق. حتى في أعرق الديمقراطيات (الولايات المتحدة. الهند. أوروبا) هناك أسر سياسية توارثت الحكم.

في تقوقع النظام الجمهوري الأوتوقراطي، تحول إلى نظام عائلي يركز على السلطات والصلاحيات والمكاسب والامتيازات في الأسرة.

المشكلة ليست في النظام. هي أيضا في المجتمع. غياب مؤسسات المجتمع المدني شجع النظام الرئاسي على ارتكاب المخالفات. تراكمت المخالفات. فتحولت إلى نفايات لا يقدر النظام على تصريفها. في الانتقال إلى عصر الرئاسة الدستورية (سبقنا إليها حمر. وصفر. وسمر. وسود)، لا بد من مجتمع مدني سليم. مجتمع غير أبوي. مجتمع قوي بمؤسسات حقيقية مستقلة: أحزاب. نقابات. برلمانات غير مهمشة. صحافة. مثقفون. طلبة. شباب. رجال مال وأعمال. جمعيات لحقوق الإنسان. أجهزة محاسبة. ورقابة. بلا أجهزة قمع. هذا هو السبيل الوحيد، لكي يموت الرئيس، عندنا، في فراشه. لا في المنفى. ولا بالرصاص. أو على عود مشنقة.

هل أخطأت السعودية في إيواء زين العابدين بن علي؟ أيدت السعودية الانتفاضة التونسية. كيف لا تؤوي السعودية رئيسا عربيا معزولا. وقد آوت سبعة ملايين مقيم عربي وأجنبي؟ آوى العاهل السعودي المؤسس ساسة وزعماء عربا، بعضهم عملوا ضده عندما كانوا في الحكم. أعرف أُسَرا نكبتها السياسة. فحفظ ملوك السعودية لها كرامتها. معنويا. وماديا. آوت السعودية زعماء أفارقة وآسيويين. إذا كان حق اللجوء يفرض امتناع الزعيم اللاجئ عن العمل السياسي، فلعل زين العابدين يسارع إلى إصدار بيان، يدعو فيه ميليشياته إلى وقف الاقتتال، بعد فوات الأوان.