حقا إنها «ثورة» الاتصالات

TT

حسب بيان الداخلية المصرية الأخير بصدد تفجيرات كنيسة الإسكندرية، فإن الضالع بها هو تنظيم إرهابي أصولي من قطاع غزة بالتعاون مع مصريين.

ليس مهما في سياقنا التالي مناقشة هذا الاتهام أو دفاع هذا التنظيم عن نفسه أو طلبات سلطة حماس من مصر للتعاون، هذا بحث آخر.

ما يهم في سياقنا هو الحديث عن المجند المصري، فقد جاء في بيان الداخلية المصرية أن (جيش الإسلام الفلسطيني) قام بالتخطيط لتنفيذ هذا العمل الإرهابي، وأنه في سبيل ذلك استعان بعنصر مصري: «يدعى أحمد لطفي إبراهيم محمد، مواليد عام 1984 بالإسكندرية، وحاصل على ليسانس آداب قسم مكتبات، حيث تم ضبطه واعترف كتابة أنه سبق له التردد على قطاع غزة عام 2008 متسللا في إطار قناعته بأفكار تنظيم القاعدة وبفرضية الجهاد من خلال شبكة المعلومات الدولية - الإنترنت، وخلال وجوده بقطاع غزة تواصل مع عناصر تنظيم جيش الإسلام الفلسطيني، حيث تم إقناعه بأن استهداف دور عبادة المسيحيين واليهود يعد ضمن فرضية الجهاد» حسب نص البيان.

مجند مصري لعمل إرهابي بتخطيط جماعة فلسطينية لضرب كنيسة قبطية في مدينة مصرية أساسية هي الإسكندرية! كل هذا تم، أو في جانب كبير منه، عبر شبكة الإنترنت.

تذكروا أيضا قصة الواعظ اليمني - الأميركي، أنور العولقي، الذي جند عدة مقاتلين أصوليين أميركيين، أو من ذوي الجنسية الأوروبية، للانضمام لـ«القاعدة». أيضا من خلال الإنترنت.

في الوقت نفسه الذي نرى فيه أن ثورة تونس المبهرة تمت في جانب كبير منها في الإنترنت ووسائط الاتصالات الحديثة، ولذلك احتل الإنترنت ورفع الرقابة عنه حيزا كبيرا في «خطاب الوداع» للرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي، أو خطاب «أنا فهمتكم» تلك الجملة الأشهر في ذلك الخطاب التاريخي المؤثر.

الإنترنت هو أيضا الحبل السري الذي يربط النشطاء المعارضين في مصر الآن، وينظم تحركاتهم، خصوصا من الشباب، أو شباب «الفيس بوك» كما يقال لهم، وبالمناسبة يعتقد أن فيلم «فيس بوك» الذي عرض في الفترة الأخيرة سيكون مرشحا أساسيا في الأوسكار المقبل.

ثورة «ويكيليكس» التي ما زالت تعتمل، مثل ثورة تونس، ويعد ربانها (أسانج) بالمزيد، هي أيضا غصن فارع من أغصان شجرة الإنترنت.

الكل دخل دنيا العجائب هذه، ولم يعد أحد يستطيع المقاومة أو محاربة الإنترنت بسيوف رسمية من خشب، لذلك تفهم بعض الرسميين هذا الأمر وشمر عن أكمامه ونزل إلى صفحات «فيس بوك» و«تويتر» مثل بعض وزراء السعودية أو رموز المعارضة في مصر، بل حتى المخابرات الأردنية فتحت صفحة للتواصل مع الجمهور!

إننا في عالم تحكمه ثورة المعلومات، وما السلطة في جوهرها إلا تحكم بالمعلومة والثروة.

في السابق، كانت ميزة النخبة أو أهل الحل والعقد أو سراة القوم، أو النبلاء، سمهم ما شئت فكلها عناوين تؤدي إلى النخبة المحتكرة للمعرفة والثروة والسلطة، كانت ميزة هذه النخبة تميزها عن البقية بالمعرفة المسبقة، وأنهم دوما يدركون «بواطن الأمور» تماما كما ينظر الطفل إلى أبيه والطفلة إلى أمها، والصبي إلى معلمه، وهكذا في تصاعد متسلسل من البيت الصغير إلى البيت الكبير الذي هو: الدولة، دوما هناك صب رأسي من فوق إلى تحت للمعلومة وبالتالي للحقيقة، هناك مصدر رأسي للمعلومة وهناك متلق تحتي لها، وهكذا ظلت فلسفة السلطة، بكل معاني السلطة، طرف عارف بالمعلومة وبالتالي منتج للمعرفة والسلطة، وطرف ثان هو الطرف السلبي في هذه العلاقة.

يستغرب كثير من الأمهات العربيات اليوم من تمرد بناتهن عليهن، بنات «البلاك بيري» و«الآي فون» وأنهن لم يعدن يحترمن «سلطة» أمهاتهن، ونفس هذه الشكوى لدى جيل الآباء تجاه الأبناء، وقل نفس الشيء عن المعلم والتلميذ، وطبعا شيخ الدين ومن يتجرأ على نقاشه من الصحافيين أو المثقفين أو حتى عامة الناس، إن كان مصطلح العامة أيضا يملك نفس المواصفات التي كان يملكها في السابق!

حق لهم الشكوى، فقد تغيرت طبيعة العلاقة ومسار المعلومة، من الشكل الرأسي إلى الشكل الأفقي، لم تعد الأمور مرهونة بمصدر متعال للمعلومة يصبها تجاه الطرف الأدنى، بل أصبح هناك شيوع أفقي للمعلومة دون الرجوع للسلطة الأبوية الفوقية. صحيح أن هذا الشيوع الغزير للمعلومات يأتي على حساب الدقة والمصداقية، ولكن من قال إن الديمقراطية كلها جيدة، هناك جوانب من الهراء لا بد من قبولها لأنها من طبيعة الأمور، وكما قال الروائي الإيطالي (أمبرتو إيكو) «إن صراخ الإنترنت أحيانا هو الجانب التجريدي من ركن الهايد بارك في الديمقراطية البريطانية»!

نعم تغير نمط العلاقة وطريق المعلومة وشكل السلطة، أليست البنت اليوم تتعلم أمور النساء والعواطف وكيف تصبح أنثى دون الرجوع إلى سلطة الأم التقليدية التي كانت هي مصدر الخبرة والمعرفة في هوية وأنوثة ابنتها؟! كذلك الأمر مع الشاب الذي أصبح بعيدا عن سلطة والده التوجيهية، التي يفترض أنها مبنية على خبرة ومعلومات في الحياة، بالإضافة طبعا لمشاعر الحب، فقد صار هذا الشاب يجد في عالم الإنترنت الفسيح وعلاقاته المتشعبة مجالا غير محدود من الخبرات والمعلومات والأفكار غير المطروقة.

السياسي والحاكم وشيخ الدين والمعلم، لم يعد هو المالك الوحيد للمعلومة، أو جوانب كثيرة منها، وبالتالي ذهب الكثير من هالة السلطة، وبقي أن تنتج لنا أشكالا جديدة من العلاقات بين أطراف المعادلة.. ما زالت تعتمل في مطبخ الحاضر لتقدم على موائد المستقبل..

حسب المتداول فإن تقنية الإنترنت دخلت السعودية يناير 1999، مع أن أول تطبيق للويب كان 1992، بعدما خرجت جذور هذه التقنية من وزارة الدفاع الأميركية 1983.

أي إننا إذا ما أخذنا السعودية كبلد معياري، وهو كذلك بسبب أن المستخدم السعودي يحتل حصة من أكبر الحصص في عالم الإنترنت في المنطقة العربية، فإننا تجاه عقد ونيف من السنين على دخول هذه التقنية إلى عالم العلاقات السعودية المجتمعية، قل إنه لم يتحول إلى أساس في عادات واحتياجات السعوديين إلا في الفترة الأخيرة، أضف إليه ثورة الأجيال الجديدة من الهواتف المحمولة، مع دفق الفضائيات المتواصل طبعا.

ليصبح السؤال: كل هذه المتغيرات في ظرف سنوات، ماذا فعلت وماذا ستفعل بالناس، في السعودية أو في غيرها؟!

بعض ما فعلته رأينا نتائجه، خيرا وشرا، فقد استفادت «القاعدة» بشكل كبير من عالم الإنترنت، وكونت خبراء في هذا المجال، أعلنت الداخلية السعودية أكثر من مرة القبض عليهم، بل إن تنظيم القاعدة نفسه ليس إلا ثمرة من ثمرات الإنترنت كما قال المستشرق الفرنسي جيل كيبيل في محاضرة ألقاها بمركز كارنيجي للسلام في خريف 2004، لكن أيضا كان للإنترنت دوره في تعريف المجتمع السعودي ببعضه وتكوين وعي وطني رشيد، وزيادة انفتاح الأفق لدى الفرد السعودي، ناهيك طبعا عن الجوانب الخدمية للإنترنت (تسديد فواتير، تقديم طلبات، توفير خدمات حكومية أو خاصة من قبل الشركات.. إلخ).

بكلمة: راقبوا بتمعن عالم الإنترنت، فالدنيا تخلق هناك، حيث فاض عالم الخيال على عالم الواقع وتحطمت الأسوار بينهما...

[email protected]