وثائق «ويكيليكس» والعلاقات الخليجية ـ الأميركية

TT

كان الهدف من زيارة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لدول الخليج العربي، خلال الأسبوع الماضي، ترميم الجسور، وتطييب الخواطر، واحتواء التداعيات المحرجة لنشر وثائق «ويكيليكس». فمن أصل 251287 وثيقة قام موقع «ويكيليكس» بنشرها، هناك نحو 3800 وثيقة مصدرها سفارات وقنصليات الولايات المتحدة في العواصم الخليجية. لقد جاء ذكر دولة خليجية صغيرة نحو 17 ألف مرة، وتمكنت دولة خليجية أخرى من الحصول على 2500 وثيقة خاصة بها.

وتكشف وثائق «ويكيليكس» الخاصة بدول الخليج العربي مجموعة من الحقائق التي تعبر عن عمق العلاقات الخليجية الأميركية، وتسمح بالحديث بعفوية وبصراحة واطمئنان، بما في ذلك قول مسؤول خليجي رفيع المستوى لرئيس هيئة أركان القوات المسلحة الأميركية «إنه ما دامت أميركا موجودة في الخليج فلا خوف لدينا من إيران، عادية كانت أم نووية».

وتشير الوثائق المنشورة إلى أن الدول الخليجية لا تتلقى أوامر من واشنطن خلف الأبواب المغلقة. فالحديث السري جدا في معظمه يأتي من طرف واحد هو الطرف الخليجي، وليس الأميركي. المسؤول الخليجي يلقي محاضرات مطولة على الضيف الأميركي. يقول مسؤول خليجي رفيع المستوى لضيفه الأميركي «نحن أهل هذه المنطقة ونعرفها أكثر منكم»، وذلك على نسق القول المأثور «أهل مكة أدرى بشعابها».

إن صحت وثائق «ويكيليكس»، فما يجري في الاجتماعات السرية لا ينم عن وجود ضغوط أميركية على دول مجلس التعاون، وذلك على العكس من الانطباع السائد بأنها هي الطرف الضعيف في المعادلة، وتظهر واشنطن وكأنها الآمر والناهي، وتأتي بقائمة من المطالب الوقحة التي تفرضها فرضا على دول المجلس. هذا الانطباع غير دقيق على الإطلاق، ولا وجود له في القراءة المتأنية في الوثائق المنشورة حتى الآن. الطرف الخليجي يتحدث بثقة كبيرة، وندية واضحة، وبلغة قوية، ويطالب واشنطن باتخاذ مواقف حاسمة، خاصة تجاه إيران وبرنامجها النووي والقضايا الإقليمية الأخرى.

في حقيقة الأمر تقدم وثائق «ويكيليكس» صورة مختلفة عن دول الخليج في تعاملها مع واشنطن. فعلى الرغم من صغر هذه الدول، وحاجتها الماسة للحماية الخارجية، وعمق ارتباطها بواشنطن، فإنها ليست مستعدة لأن تكون تابعة للإرادة الأميركية.

لكن الوثائق تشير أيضا إلى أن دول الخليج تتحدث مع الولايات المتحدة بلغتين مختلفتين كل الاختلاف، عندما يكون موضوع الحديث إيران والشأن الإيراني. فهذه الدول تقول خلف الأبواب المغلقة، وفي الاجتماعات السرية، ما لا تقوله عادة بحق إيران في العلن وفي التصريحات الرسمية. ما ينطق به صانع القرار الخليجي في السر عن إيران لا يمكن النطق به في العلن. ويبدو أن الوقت قد حان، في ضوء ما تم تسريبه، لأن ينسجم الخطابان، وتصبح دول الخليج أكثر شفافية مع إيران، وتتحدث معها من دون الحاجة إلى ماكياج المجاملات.

دول الخليج غاضبة جدا من إيران، وتعيش كابوس تحول إيران إلى دولة نووية، وقد طالبت واشنطن صراحة بشن هجوم عسكري استباقي ووقائي ضد المنشآت النووية الإيرانية. لكن هذه العواصم الخليجية تخفي كل هذا الغضب، ولا تقول مثل هذا الكلام بهذه القوة في الخطاب الرسمي الحذر جدا وكثيرا تجاه طهران.

ويتضح أن خوف دول الخليج العربي من برنامج إيران النووي يفوق بكثير خوف واشنطن، وإحساسها بالخطر الإيراني ضخم، بل هو أضخم بكثير مما يقال في العلن. ولا تحتاج العواصم الخليجية من يحرضها ضد البرنامج النووي الإيراني، فهذه الدول واضحة كل الوضوح بأن «إيران هي مصدر عدم الاستقرار في الخليج العربي»، وأنه لا يمكن تحمل إيران كدول نووية. وإذا امتلكت إيران قدرات نووية عسكرية فإن دول مجس التعاون، كما ذكر مسؤول خليجي آخر «ستطور برنامجها النووي، أو ستطلب الحماية النووية من الدول الحليفة».

أكثر من ذلك يتضح من الوثائق أن دول الخليج هي التي تحرض واشنطن، وليس العكس، على عمل كل ما يمكن عمله من أجل وقف البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك إقناع واشنطن بعمل «عسكري ضد إيران» إذا تطلب الأمر ذلك. مثل هذا الحديث وبهذا الوضوح الشديد لا يقال عادة في العلن، حيث كررت العواصم الخليجية مرارا وتكرارا أنها ضد أي عمل عسكري، وأنها لن تسمح لواشنطن باستخدام أراضيها لشن أي هجوم ضد إيران.

لذلك فإن السؤال هو: أي من هذين الموقفين المختلفين كل الاختلاف يعبر بصدق عن الموقف الرسمي لدول مجلس التعاون الخليجي تجاه إيران؟ هل التصريحات التطمينية والتصالحية المعلنة، أم المواقف الحادة والتحريضية السرية التي تم تسريبها مؤخرا؟ أيهما الكابوس الحقيقي بالنسبة لدول الخليج: بروز إيران كدولة نووية أم اندلاع حرب رابعة في المنطقة؟ حديث المسؤول الخليجي في وثائق «ويكيليكس» هو في مجمله مع الطرف الأميركي، لكن الرسالة كانت موجهة للقيادة في طهران، وربما جاء نشر هذه الوثائق مفيدا لتعرف إيران أن الكرة الآن في ملعبها.

المؤكد الوحيد أن وثائق «ويكيليكس» تحمل مادة غنية جدا، وهي جديرة بالقراءة المتأنية لمعرفة حقيقة العلاقات الخليجية الأميركية، وطريقة تفكير صانع القرار الخليجي، وأسلوب حديثه مع المسؤول الأميركي خلف الأبواب المغلقة، وفهمه للجار الإيراني الصعب الذي يتم التعامل معه باحترام شديد في الخطاب الرسمي العلني، وحذر أشد في السر وخلف الأبواب المغلقة.

لم يصدر عن العواصم الخليجية ما ينفي أو يؤكد صحة ما ورد في هذه الوثائق. فقد التزمت دول الخليج الصمت، وكبتت غضبها على مضض، وتظاهرت بأنها «غير معنية بهذه التسريبات». والقناعة السائدة في ضوء زيارة وزيرة خارجية الولايات المتحدة أن العلاقات الخليجية الأميركية قوية ومحصنة بما فيه الكفاية ضد «المطبات والزوبعات والتصريحات» المنسوبة إلى المسؤولين الخليجيين والمأخوذة من خارج سياق الحديث، على شاكلة ما ورد وتردد في وثائق «ويكيليكس».

* أستاذ العلوم السياسية

- جامعة الإمارات