ثورة أكثر دموية من الياسمين

TT

القصرين – تونس - في هذا الركن القاحل من جنوب تونس بالقرب من الحدود مع الجزائر، تبدو «ثورة الياسمين» تسمية غير موفقة لانتفاضة شعبية نجحت في طرد الرئيس زين العابدين بن علي من البلاد. قد تشير كلمة «الياسمين» إلى فيلات الطبقة المتوسطة في العاصمة، التي تغطت الجدران المحيطة بها بكرم عنب ذي رائحة عطرة. تسمية الثورة بـ«ثورة الياسمين» قد تشير إلى مفكرين وفنانين ومهنيين نجحوا في إذلال وهزيمة الدولة البوليسية من خلال الخروج في مسيرات جماعية.

هناك حقا طبقة متوسطة كبيرة في تونس، ولعب المتعلمون ميسورو الحال إلى حد ما دورا أساسيا في إسقاط النظام. لكن في ولاية القصرين وعدة مدن محيطة بها تعتبر نفسها مهد الثورة، كانت القصة عن الدم لا الياسمين. لقد جمعت لجنة «هيومان رايتس ووتش» أسماء 17 من أهل القصرين الذين تم إطلاق النار عليهم من قبل الشرطة خلال مظاهرات الشوارع في الفترة من 8 إلى 10 يناير (كانون الثاني). وقد قتل ستة خلال الفترة نفسها في مدينة تاله الأصغر، التي تبعد 25 ميلا باتجاه الشمال. وفاق عدد من قتل في هاتين المدينتين العدد الرسمي لمن قتلوا في أنحاء البلاد البالغ 21، وهو الرقم الذي أعلنته حكومة بن علي قبل وقت قصير من انهيار النظام. ولم يعرف بعد عدد القتلى، على وجه الدقة. لكن في الغرب توفي خمسة في الرقاب واثنان في منزل بوزيان. وفي قلب المنطقة تقع سيدي بوزيد التي شهدت إضرام بوعزيزي النار في نفسه في 17 ديسمبر (كانون الأول) وهو ما أشعل الثورة. وكذلك أطلقت الشرطة النيران على متظاهرين في العاصمة، لكن كانت المنطقة الجنوبية لها النصيب الأكبر من الإصابات. وبحسب المجلس المحلي، فقد بلغ عدد القتلى في أرجاء البلاد 78، وتم إعلان الحداد عليهم لمدة ثلاثة أيام.

القصرين هي تونس الأخرى، حيث يقول أكثر الناس إن مطلبهم الرئيسي هو الحصول على وظيفة، والشعار الذي رفعوه هو «خبز وماء.. بن علي لا». لم يكن الإحباط الذي يعانيه أهل المنطقة معروفا، لأنه حتى سقوط بن علي، لم يكن يستطيع أي صحافي أجنبي أو باحث حقوق إنسان زيارة هذه المنطقة الداخلية. فإذا لم ترصدك الشرطة السرية وتعيدك، فلن تجد أي مواطن على استعداد للتحدث بصراحة، خوفا من التحقيق معه بقسوة أو ما هو أسوأ. وأكد لي ذلك عدة مواطنين من سكان المنطقة الذين ينعمون الآن بفرق عمل تلفزيونية تصور ثورتهم وفقرهم، ومنهم مراسلون صحافيون من التلفزيون التونسي بعد ولادته مرة أخرى، حيث لم يكن يذهب إلى المنطقة خلال حكم بن علي الاستبدادي الذي دام 23 عاما، إلا لتصوير مراسم افتتاح.

لقد جذبت ولاية القصرين إليها الأنظار بالطريقة الصعبة، فقد تحدثت وزملائي مع عائلات وشهود عيان ومسؤولين طبيين وآخرين هنا، وفي تاله الأسبوع الماضي، وأخبرونا كيف كانت شرطة مكافحة الشغب القادمة من خارج المنطقة تستخدم الذخيرة الحية ضد المتظاهرين وتضربهم بعنف في بطونهم وعلى رؤوسهم وظهورهم. أكثر المظاهرات كانت سلمية، لكن كان الشباب في مظاهرات أخرى يشعلون النيران في إطارات السيارات، ويلقون أحجارا وأحيانا قنابل المولوتوف. لكن تشير الروايات التي سمعناها هنا إلى أن قوات الأمن كانت تطلق النيران بهدف القتل حتى في المواقف التي لم تكن تعد خطيرة، مثل عندما قذف بعض الشباب الحجارة على قوات الشرطة وأحرقوا إطارات سيارات لاستخدام الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفرقة السكان الذين كانوا يشاركون في تشييع جنازة شاب في 10 يناير.

وأثارت طلقات النار المميتة غضب التونسيين في مختلف أنحاء البلاد. فأن تعرف أنك تعيش في دولة بوليسية شيء، وأن ترى الشرطة تقتل وتصيب أهلك شيء آخر. في أعمال شغب الخبز عام 1984، نزل سكان القصرين، الذين هم آباء الشباب الذين قاموا بالثورة الشهر الحالي، إلى الشارع ودفعوا ثمنا باهظا. منذ أن تولى بن علي الرئاسة عام 1987، لم ير التونسيون الشرطة تقتل متظاهرين بهذا الشكل، لسبب بسيط وهو أن الشرطة كانت نادرا ما تسمح للمظاهرات بأن تبدأ.وعندما لم ينجح قمع الشرطة في وضع حد للاضطرابات، الجنرال رشيد عمار، قائد الجيش، رفض أن يأمر قواته بإطلاق النار على المتظاهرين. ويقول سكان القصرين إنه بعد ظهيرة يوم 10 يناير، الجيش حل محل قوات مكافحة الشغب في المدينة على نحو مفاجئ. ومنذ ذلك الحين تولى الجنود أمر المظاهرات المستمرة دون حوادث جلل. وقدم مصدر طبي، مطلع في القصرين، دليلا شرعيا على أن قوات الشرطة كانت تطلق النيران على المتظاهرين بهدف قتلهم، لكنه طلب مني عدم ذكر اسمه. وقال: «لا ندري مصدر الثورة؟ من قتلوا كل هؤلاء الناس ما زالوا طلقاء، ومعهم بنادقهم». شعر سكان المنطقة بقدر أكبر من الراحة، لكن لا يزال الكثير منهم يطالبون، بالإضافة إلى المزيد من فرص العمل، بمعاقبة الذين قتلوا أبناءهم وإخوانهم.

ليست العائلات الحزينة هي فقط التي تهتم بأمر المساءلة. إذا أنشأت تونس جهازا أمنيا يحترم حقوق الإنسان ليحل محل ذلك الجهاز القائم على التعذيب والإرهاب، فهي بحاجة إلى محاكمته وعمل ملف كامل شعبي للدماء التي تم دفعها من أجل «ثورة الياسمين».

* نائب مدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

في «هيومان رايتس ووتش»

* خدمة «واشنطن بوست»