سورية.. النيات الطيبة وحدها لا تكفي

TT

في مطلع 2005، زار الرئيس بشار الأسد الرياض، والتقى المسؤولين السعوديين. وفور عودته إلى دمشق ألقى في 4 مارس (آذار) خطابا أمام مجلس الشعب السوري أعلن خلاله انسحاب سورية من لبنان، قائلا: «وبإنهاء هذا الإجراء تكون سورية قد أوفت بالتزاماتها حيال اتفاق الطائف ونفذت مقتضيات القرار 1559».

لقد كان الرئيس الأسد محقا، فقد وفت سورية بالتزامها، فما الذي يريده الآخرون من دمشق؟ ولماذا لا يزالون يأملون من دمشق أن تقوم بأكثر مما قامت به؟.. تلك هي المشكلة التي عجز الكثير من الدول الإقليمية والدولية عن فهمها، وهو أن سورية لا تستطيع أن تقدم أكثر مما قدمت، ولهذا فإن العتب يقع على عاتق الذين تصوروا أن دمشق بإمكانها أن تقدم شيئا في الملف اللبناني.

لم تكن سورية لتخرج من لبنان لولا القرار 1559، ولولا تضافر المجتمع الدولي على تحقيقه، ولعل أزمة لبنان الراهنة لا يمكن حسمها بغير استكمال تطبيق بنود ذلك القرار. لقد أضاعت القوى الدولية والإقليمية وقتها في موضوع تأليف حكومة توافق، وتحقيق استقرار نسبي في لبنان، ولكن ما كان ينقص لبنان هو استكمال مفاعيل ذلك القرار الدولي. المحكمة الدولية المكلفة بالنظر في موضوع اغتيال الحريري مهمة وشرعية. بيد أن تحقيق ذلك قد لا يتم إلا بالانتهاء من القرار 1559. لقد تضمن القرار ثلاثة بنود: جلاء القوات الأجنبية عن كامل الأراضي اللبنانية، نزع السلاح من الأحزاب والمجموعات، وبسط الحكومة سيادتها على كامل التراب اللبناني.

وباستثناء انسحاب القوات السورية، لم يتبق إلا نزع سلاح حزب الله وغيره من الفصائل المسلحة، وأن تضطلع الحكومة اللبنانية ببسط سيادتها على باقي الأراضي اللبنانية. هذه هي النقاط الرئيسية التي كان يجب الحوار حولها، وليست تلك المطالب المؤقتة والهامشية التي نجح السوريون والإيرانيون في إلهاء جهود الدبلوماسية الدولية دون الوصول إلى نتائج ذات قيمة ملموسة على الأرض.

لأكثر من عامين، قررت فرنسا، والسعودية، والولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية، إجراء حوار مع سورية، وقامت بالانفتاح ومحاولة نسيان التصريحات السابقة، وحدث بالفعل أن تم تجاوز بعض النقاط المعطلة للحوار. فقد بذل السعوديون جهدا في دفع أصدقائهم في لبنان نحو المصالحة مع دمشق، وقادت فرنسا حملة دولية لإقناع الآخرين بأنه بالإمكان التأثير على التحالف السوري - الإيراني إيجابيا. أما الولايات المتحدة، فقد أعادت تسمية سفيرها هناك، وشهدت العاصمة السورية توافد أعضاء من الكونغرس وممثلي الدبلوماسية الأميركية.

ماذا كانت النتيجة؟

في الحقيقة لا نعرف. لقد حجت عشرات الوفود العربية والأجنبية إلى ديوان الرئاسة السوري، وحضرت جلسات مطولة - قال بعض الدبلوماسيين إنها تمتد لساعات - بصحبة الرئيس السوري، الذي كان ينجح دائما في تزويد ضيوفه بدروس تاريخية مميزة عن المنطقة، وهو تقليد استمده الرئيس الابن من أبيه، حيث يذكر هنري كيسنجر في مذكراته أنه ذهب للقاء الرئيس حافظ لقياس سقف المطالب السورية قبل قمة جنيف – ديسمبر (كانون الأول) 1973 - وفوجئ بالرئيس يلقي عليه محاضرة عن التاريخ السياسي للمنطقة امتدت لعدة ساعات. كان ذلك اللقاء الأول بين الطرفين، وقد سمى كيسنجر ذلك «درس الأسد الأول». بعد أعوام كتب هنري كيسنجر شارحا دبلوماسية الأسد المثيرة للانتباه، حيث إن الرئيس كان يعمد إلى إجراء لقاء خاص دون مساعديه إذا كان يريد أن يفاوض حقا، ولكنه سيعمد إلى جمع أكبر عدد من مستشاريه ومساعديه إذا كان يريد تأكيد الموقف السوري المعلن، وذلك عبر إلقاء درس تاريخي غني بالمعلومات والقصص (سنوات الجيشان - 1982).

المفارقة، هو أن تلك الوفود على الرغم من تكرار زياراتها لم تتعلم شيئا. لقد نشطت سورية بشكل مكثف في المحور السوري - الإيراني، ودفعت بشكل متزايد نحو دعم حلفائها والحركات والتنظيمات المرتبطة بهذا المحور دون كلل. وطوال العامين الماضيين لم تقدم سورية على أي تنازل، ولم تسهم في الضغط على حلفائها، ولم تبرم أي اتفاق ذي قيمة مع أي من الدول التي سعت إلى الحوار معها. كل ما قامت به دمشق هو الترويج لمبادرات تصب في مصلحة حلفائها، وتسريب معلومات مغلوطة إلى صحافة «المقاومة» عن كل جولة حوار تقوم بها.

يكفي فقط مراجعة ملفي العراق، ولبنان، حيث استطاع المحور السوري - الإيراني أن يفرض مرشحيه لرئاسة الوزراء في العراق، ورئاسة الوزراء في لبنان، على الرغم من أن الطرف الآخر يملك الأكثرية. لقد جرى تفريغ المكاسب السياسية لدى تلك الأطراف، وتم إضاعة الوقت في حوار لم يثمر إلا المزيد من التشويش.

لأكثر من ثلاثة عقود، ومجموعة من الخبراء الأجانب والعرب يقولون إن حل مشكلة لبنان، أو فلسطين، أو كسر شوكة التنظيمات الراديكالية، أو حتى دفع سورية للتخلي عن حليفتها إيران هو في تقديم عرض لسورية لا يمكنها رفضه، أي عرض يتجاوز كل ما تجنيه سورية من وراء تدخلها في لبنان أو بين الفصائل الفلسطينية، أو من وراء التحالف مع طهران. البعض كان يقول إن من شأن انسحاب إسرائيلي من الجولان أن يقوم بذلك، وراهن البعض على أن سورية لن تقبل بالانسحاب من أراضيها، ما لم يتضمن ذلك انسحابا من مزارع شبعا، وحلا مقبولا لدولة فلسطينية مستقلة على أراضي 1968. آخرون، جادلوا بأن من شأن الاعتراف بدور سوري إقليمي أكبر ومراعاة مصالح سورية في لبنان أن يدفع بسورية نحو الاعتدال في سياستها الخارجية. لكن نتيجة ثلاثة عقود من الحوار مع سورية لم تفلح في تحقيق نتائج ثورية، وإذا كانت هناك من دروس ملموسة من سياسة الانفتاح على سورية في العامين الأخيرين، فهي أنها لا تحقق إلا المزيد من التعقيد في تلك الملفات.

دبلوماسية «المقاومة» ليست شعارا فقط، كما يتوهم زوار سورية، بل هي سياسة - ناجحة نسبية - مكنت سورية من التعايش في محيط إقليمي وطائفي قلق، ولهذا فإن منهج «المقاومة» ليست لافتة ترفعها الدولة، كما تفعل دول أخرى، بل هي جزء من مشروعية الدولة، ولهذا فإن التفريط بها - أي بالمقاومة - ليس واردا، لأن الدول لا تعبث بشرعيتها. ويوم أن توجد سورية، التي لا تقوم على «المقاومة» - خطابا، ومنهجا، وتحالفا - فهي سورية أخرى لم نشهدها بعد.

في حوار جرى بين الرئيس فورد ووزير خارجيته في المكتب البيضاوي - 19 فبراير (شباط) 1975 - بعد جولة للأخير في الشرق الأوسط، سأل فورد: «ماذا عن الأسد؟»، أجاب كيسنجر: «لقد سألته ماذا يريد؟ فقال لي: أريد كل شيء. فقلت: وماذا ستقدم في المقابل؟ فقال: النية الطيبة».