الأسلاك

TT

كان طول حدود الاتحاد السوفياتي السابق يزيد على 42 ألف كيلومتر. حدود مع الصين وحدود مع إيران. في الصحاري وفي البراري وفي الجبال وفي الرمال وفي الجليد وفي الأنهر. وحيثما استطاعوا، نشر السوفيات أسلاكا حديدية. مع الصين ومع إيران ومع بولندا. تخيل مناجم الحديد والفولاذ، تعمل فقط لتأمين الأسلاك. والسفن تعمل لشحنها. والمصانع تعمل لشحذ أسنانها.

في العقل الديكتاتوري اليابس، خشيت موسكو السوفياتية المؤامرة الخارجية. أن يتسلل العدو من أذربيجان أو من تشيكوسلوفاكيا أو بلاد المغول. لم تدرك أن سقوطها سوف يكون من خلال مراسيم يصدرها الكرملين ويوقعها ميخائيل غورباتشوف. بسط زين الدين بن علي الأسلاك غير المرئية في كل مكان. ونسي سيدي بوزيد. نسي أن الناس تغير من بعضها البعض وأن الشمال يغار من الجنوب والغرب يغار من الشرق.

هكذا تقدمت مناطق على أخرى. ولم يكن يعرف إلى أي مدى تغار «الجهات» من بعضها، مهما نادت الناس ببلد واحد ووطن واحد.

كانت الدنيا تقوم في لبنان إذا فتح رئيس الجمهورية الجديد طريقا سريعا إلى منطقته ومقره. ولم يقبل أحد أو يصدق أحد أن تحسنا في الشمال هو في خير الجنوب. كانت الناس تحسد بعضها والجهات تغار من بعضها والطوائف والمذاهب تسابق بعضها على كومة حجارة أو متر من الإسفلت. الآن يشكو التونسيون من بن علي أنه كان «جهويا». ويشكون من الفوارق بين أرياف الداخل والمدن الساحلية، ثم يتذكرون الحرية فيسرعون إلى رفعها.

تأخر المنظرون الكبار في البحث عن تعابير كبيرة لانتفاضة تونس. أما الناس فلا تزال متحمسة في تبسيط القضايا بدل التعابير الواسعة التي تسخفها وتستخف بإرادتها. لا تعابير ولا مصطلحات معقدة في تونس. كلام بسيط، دقيق، واضح، هندسي، وصادق. أولا سوء إدارة الرجل. ثم قبضته: بناء الأسلاك الشائكة بدل المصانع والبيوت.

الناس هي الناس. من العبث أن نبحث لها عن تنظيرات أوسع من آفاقها وأصدق من طبيعتها وأبعد من بساطتها. لولا عربة خضار حمراء لكان المنظرون لا يزالون حتى اليوم يبحثون عن عنوان معقد لمقال معقد، لا يقول شيئا ولا يؤدي إلى شيء. وكل النخب التي تتحدث الآن وتملأ حرم الجامعات وتتقدم المظاهرات في المدن، عليها الاعتراف، دون أي حرج، بأنها لم تكن تحلم بخروج بن علي مبكرا.