«الرزمة الأميركية» على الطريق ويجب تجنب «الفيتو» في مجلس الأمن!

TT

مع أن المنطقة تغرق في طوفان المآزق التي تهاجمها من كل الجوانب، من الأوضاع العراقية التي لم تستقر بعد، إلى الحالة اللبنانية الملتهبة، والتي تزداد التهابا يوما بعد يوم، إلى تعقيدات السودان واليمن، وتحديات الإرهاب وخلاياه التي استيقظت مجددا في الجزائر والمغرب، فإن القضية الفلسطينية تبقى هي القضية الرئيسية والأساسية، وتبقى مياهها مستمرة في الجريان، رغم أن المراقب عن بعد يراها متوقفة، ويرى أن كل شيء باق على ما هو عليه منذ أن استفحل استعصاء المشكلة الاستيطانية.

المعلومات المؤكدة تشير إلى أن الأميركيين منهمكون، منذ أن أعلنوا عن نفض أيديهم من التزامهم السابق بوقف الاستيطان، ولو مؤقتا، كي تنطلق المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين المتوقفة، منذ إقصاء رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت عن موقعه واستبداله برئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، في إعداد صيغة يسعون لموافقة الطرفين المعنيين عليها تتجاوز القضية الاستيطانية كلها بالذهاب فورا إلى أهم المسائل النهائية وأهمها قضية تحديد حدود الدولة الفلسطينية (المنشودة) وحدود الدولة الإسرائيلية.

ولعل ما يعزز هذا الانطباع، بل هذه المعلومات، أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) قد أطلق قبل فترة تصريحا، ابتلعته مستجدات تونس ولبنان، قال فيه إنه على استعداد للذهاب إلى المفاوضات المباشرة على الفور وتجاوز مسألة الاستيطان إذا اعترفت الولايات المتحدة بأن حدود الدولة الفلسطينية المنشودة هي حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967، والمؤكد أن هذا الالتزام لا يزال قائما حتى الآن، وسيبقى قائما إلى أن يبلور الأميركيون الصيغة التي يعملون على بلورتها لإخراج قضية الشرق الأوسط من استعصائها الحالي.

وهذا يعني أن الفلسطينيين غدوا على استعداد مؤكد للتخلي عن موقف ربط استئناف المفاوضات بوقف الاستيطان ولو مؤقتا لحساب «الرزمة ذات المضمون العملي» التي يواصل الأميركيون بلورتها، وهم على اتصال مستمر بشأنها مع الفلسطينيين والإسرائيليين ومع بعض الأطراف العربية المعنية كالأردن ومصر والمملكة العربية السعودية، وربما أيضا سورية التي وصلها سفير أميركي جديد بعد خمسة أعوام من التباعد والانقطاع والاختلافات السياسية المستفحلة حول العراق ولبنان وكيفية حل القضية الفلسطينية.

وللترويج لهذه الرزمة، التي غدت بحكم المتبلورة والمعدة، فإن الأميركيين يطرحون وجهة نظر قريبة من وجهة النظر التي كان طرحها الرئيس السوري بشار الأسد اعتراضا على تشبث الفلسطينيين بوقف الاستيطان والقائلة بأن المشكلة الأساسية هي احتلال إسرائيل للأرض وليس بناء المستوطنات، وإن الاعتراف بحدود الرابع من يونيو كحدود للدولة الفلسطينية العتيدة المنشودة، يعني أن إزالة كل المستوطنات أو بعضها والاتفاق على صفقة ما لحل مشكلة بعضها الآخر ستصبح تحصيل حاصل وعلى غرار ما حصل بالنسبة لمستوطنات سيناء التي كان الإسرائيليون يتمسكون بها أكثر من تمسكهم بمستوطنات الجولان ومستوطنات الضفة الغربية.

ومما يعطي هذا التوجه المزيد من الجدية والمصداقية أن هناك معلومات مؤكدة تشير إلى أن الأميركيين تعمدوا وضع الكرة في ملعب الإسرائيليين لتذكيرهم بأنه لم يعد أمامهم، إنْ هم واصلوا التهرب من استحقاق الدولة الفلسطينية المستقلة والمتصلة الحدود والقابلة للحياة، إلا أن يستوعبوا الشعب الفلسطيني كله في دولة واحدة هي الدولة الإسرائيلية. ولذلك، ولأنه لن تكون هناك مساواة بين سكان هذه الدولة، فإن دولة إسرائيل ستتحول حتما إلى دولة عنصرية على غرار دولة الـ«أبرتهايد» في جنوب أفريقيا.

ويقال إن الأميركيين وهم يحاولون إقناع الإسرائيليين بخطتهم الآنفة الذكر هذه قد دأبوا على تذكيرهم أيضا بأن المنطقة بين البحر المتوسط غربا ونهر الأردن شرقا سوف يصبح عدد قاطنيها في عام 2015 مناصفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن رفض خيار قيام دولة فلسطينية مستقلة فعلا على حدود الرابع من يونيو عام 1967 سيؤدي إلى خيار الدولة الواحدة حتما، إذ أن التهجير الجماعي «الترانسفير» غير ممكن، ولم يعد واردا، وكذلك الأمر بالنسبة لخيار الوطن البديل الذي ثبت أنه كفكرة غير مقبول على الإطلاق لا فلسطينيا ولا أردنيا ولا عربيا وإقليميا، ولا من قبل الأمم المتحدة والعالم بأسره.

وهكذا، ولحمل الفلسطينيين على الاستمرار بالسير في هذا الاتجاه الصحيح فإن الأميركيين وبعض العرب وبعض الأصدقاء أيضا وفي مقدمتهم دول الاتحاد الأوروبي قد نصحوا أبو مازن بألا يذهب إلى مجلس الأمن قبل دراسة موضوع ما هو المطلوب من هذه الهيئة الدولية دراسة متأنية وجادة وجيدة، وقبل الاتفاق المسبق مع المجموعة العربية على مشروع قرار لا يطالب بوقف الاستيطان بل يطالب بالاستمرار في المفاوضات على أساس «الرزمة» الأميركية التي يجري الحديث عنها، والتي أهم ما تتضمنه هو الاعتراف بحدود الرابع من يونيو عام 1967 كحدود للدولة الفلسطينية المستقلة، والسبب هو أنه في حال ذهاب الفلسطينيين والعرب بمشروع قرار يقتصر على وقف الاستيطان فإن الأميركيين سيضطرون إلى استخدام حق النقض «الفيتو». والخطر هنا هو أن هذا سيسري على كل القرارات السابقة المتعلقة باللاجئين والاحتلال والحدود والدولة الفلسطينية.

ويبدو أن ما قاله نتنياهو حول أنه كان على استعداد لوقف الاستيطان مؤقتا كي تنطلق المفاوضات المتوقفة لكن الأميركيين رفضوا هذا، لم يكن بعيدا عن الحقيقة. فالأميركيون من خلال تجربة محاولات وقف الأنشطة الاستيطانية قد تأكدوا أن هذه المسألة بالنتيجة ستكون مضيعة للوقت، وأن البديل الأفضل هو التقدم بـ«رزمة بمضمون عملي» يكون أساسها الاعتراف بحدود الرابع من يونيو عام 1967 كحدود للدولة الفلسطينية، مع ترك المجال للتفاهم على بعض المبادلات الأرضية، والتفاهم أيضا على الاقتراح الذي يجري الحديث عنه بأن تطبق على القدس القديمة، تلك الصيغة القائلة بأن هذه القدس يجب أن تكون مفتوحة أمام أتباع الأديان السماوية الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية، وبإشراف دولي، ووفقا لما تضمنته قرارات التقسيم الذي أصدره مجلس الأمن الدولي في عام 1947.

ولهذا فإن أبو مازن يبدو مرتاحا بمقدار ما يبدو نتنياهو مضطربا وقلقا ومتوترا. وهنا فإن النصائح التي بقي الرئيس الفلسطيني يسمعها في عمان والقاهرة والرياض وفي عواصم كل دول الاتحاد الأوروبي هي بأن عليه أن يضبط أوضاعه الداخلية جيدا، وأن عليه الاستمرار بتنفيذ «خطة سلام فياض» لخلق واقع الدولة الفلسطينية على الأرض في الضفة الغربية، وأن عليه أيضا - إلى جانب هذا كله - أن يبقى يلوح بأن هذا الاحتلال الإسرائيلي غير المكلف يجب أن يوضع له حد إذا بقي الإسرائيليون يتلاعبون بعامل الوقت بهذه الطريقة، وأنه إذا بقيت عملية السلام تراوح مكانها على هذا النحو فإنه لا بد من حل السلطة الحالية والعودة إلى وضعية ما قبل عام 1993، وهي وضعية الاحتلال المباشر التي ستكلف إسرائيل نحو ثلاثة مليارات سنويا، وهذه هي وجهة نظر الدولة النرويجية التي تقول إنه إذا كان مصير عملية السلام الفشل فلماذا إذا نستمر في دفع كل هذه الأموال التي ندفعها لتحسين حياة الفلسطينيين نيابة عن الدولة المحتلة؟

ثم، وبالإضافة إلى هذا كله، فإن الذين يساندون أبو مازن في خط سيره الحالي يقولون إن المسألة غدت مسألة، وقت وإن الحل المنشود، في ضوء كل هذه الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية المستقلة، غدا في متناول اليد، لكن بشرط ألا يرتكب الفلسطينيون أي خطأ قاتل، وأن يحافظوا على تماسكهم بقدر الإمكان وأن يحاولوا استعادة وحدتهم المفقودة وفقا لـ«الورقة المصرية» في أقرب فرصة ممكنة لينتزعوا من يد بنيامين نتنياهو المبرر الذي يواصل التلويح به للتهرب من دفع استحقاق السلام العادل الذي يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967.