التحدي.. في سورية

TT

بينما تأخذ أشكال التغيير مظاهر متباينة مؤخرا في العالم العربي، ما بين الحراك الشعبي العام والتعديلات الإصلاحية في الأنظمة والقوانين والتشريعات، فإن هناك تغييرا (وإن كان بطيئا ومختلفا) لا يلقى القدر الكافي من المتابعة والاهتمام، إلا أنه يستحق التعليق، وتحديدا ما يحدث مؤخرا في سورية.

منذ سنوات بسيطة، قررت سورية الابتعاد بالتدريج عن سياسات الاقتصاد المركزي المبني على الفكر الاشتراكي ومحاولة تحويله إلى اقتصاد اجتماعي؛ فالسنوات الخمس الأخيرة كانت محاولات تفتيت الفكر الاشتراكي اقتصاديا لصالح اقتصاد السوق.

وطبعا هذا كان معناه إعادة النظر في بعض سياسات الدعم والتسعير لتصبح محررة بشكل أكبر، وهناك بعد تدريجي عن عقد اجتماعي قديم كانت ترجمته: مرتبات معقولة ومتدنية ووظائف مضمونة مع توفير متطلبات الحياة الرئيسية من طعام ومسكن وتعليم ووقود بتكاليف بسيطة جدا، ولكن هناك رؤية جديدة تسعى إليها سورية، وهي الاعتماد على التمويل للمشاريع بشكل جديد عن طريق إصدار سندات تباع للمستثمرين الأجانب لجلب ما تقدره سورية بـ55 مليار دولار، وبذلك تستطيع تخفيض الدعم ورفع أسعار المياه والكهرباء والنقل والغذاء إلى معدلات السوق المعقولة.

ولكن مظاهرات الأردن والسودان واليمن وتونس والجزائر ومصر جعلت هذه الخطة تأخذ توقيتا آخر، وتم تأجيلها، وتم الإعلان عن خطوات معاكسة تماما مثل زيادة 72 في المائة في معدلات معونة زيت التدفئة، وتم تجميد أسعار الكهرباء دون زيادات.

عائدات النفط المحدودة الواردة لسورية لم تعد تظهر بالإيجاب بالقدر الكافي في ميزانية سورية، لأن الازدياد المهول في معدلات نمو السكان يبتلع الإيراد الآتي منها، فسورية تضاعف عدد سكانها إلى 22 مليونا منذ منتصف الثمانينات الميلادية من القرن الماضي. سورية حاولت في مرات مختلفة أن «تحرر» اقتصادها على خطوات متقطعة؛ ففي عام 2008 قامت برفع أسعار الوقود وإزالة غطاء الدعم عن السماد، ولكنها قررت الإبقاء على أسعار الكهرباء والغذاء بشكل منخفض وغير طبيعي. وهذه فاتورة تراكمية ولها أعباء مهولة على الاقتصاد السوري، الذي يتحمل ويتكلف ما يعادل 5 في المائة من ناتج اقتصاده الوطني، نتاج دعمه المباشر للطاقة.

سورية معروفة تقليديا بأنها بلد يعتمد اقتصاده بشكل أساسي ورئيسي على الزراعة، وكانت دوما الزراعة مسألة حيوية والدولة حريصة على أن لا يكون هناك اهتزاز في وضعها، ولكنها هي الأخرى نالها نصيب من السياسات الجديدة والتحرير التدريجي طالها، فالدعم مفتوح بلا حدود وتم الاستعاضة عنه بصندوق «محدد الأغراض»، وتم تخفيض السلع الاستراتيجية المحددة سلفا والمضمون شراؤها من الدولة من سبع سلع إلى ثلاث: القطن، البنجر والقمح.

ولكن كل هذه الخطوات المختلفة لم تنعكس بالإيجاب على طبقات وشرائح العامة، ففتح وتسهيل الأعمال والاستثمار أفاد طبقة محدودة، إضافة لذلك فإن الانفتاح التجاري الكبير على تركيا والصين أدى إلى إغراق السوق المحلية ببضاعة رخيصة الأثمان، مما أثر بالسلب على المصنع والتاجر السوري، الذي عرف تقليديا بالبضائع المنافسة.

وهناك ضعف في قدرة الدولة على الاستمرار في تقديم خدمات الصحة والتعليم بشكل منافس، وبالتالي فتح المجال للقطاع الخاص لتقديم هاتين الخدمتين المهمتين للناس.

«البعث» في سورية يحتاج إلى إعادة صياغة أهدافه الاقتصادية بشكل فعال وعصري، وهناك الكثيرون في دائرة الحكم مؤمنون بالتجربة الصينية التي ضمنت قوة الدولة ومركزيتها وفتحت الاستثمار بقوة وحققت النمو والرخاء، ولكن سورية اليوم أمام مفترق طرق مهم، والتحدي الاقتصادي لن يقل أهمية عن تحدي الأمن. سورية «حمت» نفسها من تقلبات النظام الاقتصادي العالمي بسياسات انعزالية تامة، ولكن العالم اليوم ومشكلاته الاقتصادية باتت كالفيروس سريع الانتشار لا أحد يسلم منه.

[email protected]