بين الياسمين والأرز

TT

كعادتها في قراءة كل تحرك في الشارع العربي، لم تقصر عواصم الغرب في الإعراب عن «غيرتها» على الديمقراطية المسفوحة في العالم العربي عقب تفجر «ثورة الياسمين» في تونس، وذهب بعضها إلى حد توقع انبثاق عصر جديد يعطي الشعوب العربية الكلمة الفصل في تقرير شكل نظامها السياسي، متناسية أن الأنظمة المركزية في العالم العربي هي الحصيلة التاريخية للاستعمارين الفرنسي والبريطاني.

من المبكر، طبعا، التكهن بتوجهات «ثورة الياسمين»؛ فهي لا تزال في بداياتها ووضعها يتراوح بين الانتفاضة والثورة، الأمر الذي يضعها أمام احتمالات ثلاثة: إما أن تكون مرحلة انتقالية نحو نظام ديمقراطي تعددي، وإما مرحلة تمهيد لانقلاب عسكري يسلم الجيش زمام السلطة، وإما مجرد مرحلة فوضى مرشحة للاستمرار بعض الوقت.

في الحالات كلها لا تبدو السوابق العربية المشابهة لانتفاضة الشارع التونسي مشجعة على توقع تحقيق آمال الغرب بديمقراطية عربية.. على النمط الغربي.

قد تكون أقرب سابقة عربية شبيهة بـ«ثورة الياسمين» ما سمي «ثورة الأرز» في لبنان، لكن مع فارقين أساسيين، أولهما: أن النظام اللبناني لم ينهَر، كالنظام التونسي، بفعل ضغوط الشارع ويخلف فراغا دستوريا يستوجب ملأه بنظام آخر، والفارق الثاني: أن «ثورة الأرز» أربكتها كثرة قياداتها وتباين مراميهم على الرغم من اتفاقهم على هدف واحد: خروج القوات السورية من لبنان.

سابقة «ثورة الأرز» تثير التساؤل عن «نفس» الانتفاضات الشعبية - التي تسمى «ثورات» - في مجتمعات عربية لا تزال، في مطلع القرن الحادي والعشرين، مخضرمة في تقاليدها ومحافظة في عاداتها وإلى حد كبير راسخة في واقعها الموروث عن عهد الاستعمار.

عمليا، «ثورة الأرز»، لا «ثورة الياسمين»، كان يمكن أن تتطور إلى مثال للديمقراطية التعددية في العالم العربي، أولا: بحكم التركيبة التعددية للمجتمع اللبناني الذي يجعل من النظام الديمقراطي ضمانة سياسية لحقوق أقلياته المذهبية، وثانيا: بحكم انفتاحه التاريخي على الغرب الأوروبي منذ عصر الأمير فخر الدين المعني الثاني (1590 - 1635)، وثالثا: بسبب اكتسائها لطابع وطني لم يعرفه لبنان منذ جلاء القوات الفرنسية عن أراضيه عام 1943.

لكن المفارقة التي وقعت فيها «ثورة الأرز» أن تعددية المجتمع اللبناني - التي وصفها الرئيس الفرنسي بـ«الخلاقة» - قضت عليها عوضا عن أن تعضدها نتيجة تحولها إلى مواقع نفوذ لأطراف خارجية تتصارع للهيمنة على القرار اللبناني في إطار لعبة إقليمية لا تزال فصولها تتوالى في الشارع اللبناني.. فعاد لبنان، مكرها لا بطلا، إلى «روتين» نظام المحاصصة الطائفية وعقد الضغوط الخارجية المتناقضة.

بالمقابل تندلع «ثورة الياسمين» في دولة متجانسة مذهبيا وإثنيا، وخاضعة في نظام حكمها لسلطة مركزية منذ ما قبل الاحتلال الفرنسي عام 1881، ما يثير التخوف من أن يأتي الخطر المتربص بـ«ثورة الياسمين» من انتعاش التيارات الإسلامية المتشددة في تونس على حساب المناخ الليبرالي الذي أرسى قواعده الرئيس السابق الحبيب بورقيبة.

حتى الآن، لا تزال الظاهرة الإيجابية في انتفاضة تونس غياب المتطرفين الملتحين عن شوارعها وتظاهراتها. وفي حال عاد الهدوء إلى شوارعها واستتب الأمن يمكن أن يتاح لسلطتها الانتقالية إجراء انتخابات نزيهة وشفافة علها تؤسس لقيام نظام تعددي خال من الشوائب «اللبنانية».. وإن لم يكن واعدا بديمقراطية غربية خالصة.