احتدام الصراع في لبنان وعلى لبنان

TT

عندما قال رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي في فضائية لبنانية إنه السني الأول، ولا يحتاج إسلامه إلى شهادة من أحد؛ كان بذلك يرد على بيان «مجلس المفتين» الذي اعتبر مجيء شخص غير سعد الحريري لرئاسة الحكومة خروجا على الإجماع الإسلامي، وقهرا لأهل السنة، واستلابا لقرارهم. ورد عليه النائب نهاد المشنوق بأن الانتخابات الأخيرة أثبتت أن السني الأول يبقى حتى إشعار آخر سعد الحريري، وبالتالي فإن السنة ما جاءوا به، والدليل على ذلك ما قاله الأمين العام لحزب الله مساء الأحد الماضي على التلفزيون من أنه استدعى الرئيس عمر كرامي فشكا من التقدم في السن والمرض، فاستقر رأيه على نجيب ميقاتي!

لقد كان المقصود من هذه السطور التقديمية، إلقاء الضوء على ما جرى خلال الأسبوعين الماضيين، واللذين أديا إلى تنحية سعد الحريري عن رئاسة الحكومة، ومعه تياره ومناصروه، ولصالح الرئيس الأسبق للحكومة نجيب ميقاتي، الذي أوضحت كل المعلومات أن السوريين جاءوا به، وأن حزب الله والجنرال عون قبلا به بعد أن التقياه سرا، وأن وليد جنبلاط والرئيس نبيه بري لعبا الدور الظاهر في هذه العملية، واستفادا منها بالداخل وتجاه سورية، وهو البرنامج الإقصائي الذي أراد ميقاتي الإيهام بأنّ العرب والأتراك راضيان عنه، وهو أمرٌ غير صحيح، كما أكّد هؤلاء جميعاً. وهكذا اجتمعت عوامل محلية، وأخرى سورية، أدت من جهة إلى تنحية التيار الرئيسي بل الوحيد لدى المسلمين السنة عن رئاسة الحكومة، واستطرادا بقية قوى 14 آذار، لصالح الطرفين الرئيسيين المتضررين من وجود الرئيس الحريري، ومن قبله الرئيس السنيورة في رئاسة الحكومة. والطرفان المتضرران كما اتضح من تجاذبات الشهور الأخيرة: حزب الله وسورية، أو سورية وحزب الله.

إن الخلاف الناشب مع سورية وحزب الله وحلفائهما في لبنان، لا يتناول المحكمة وحسب؛ بل يتناول طبيعة العلاقات التي ينبغي أن تقوم بين لبنان وسورية، كما يتناول سلاح حزب الله. ويتناول أيضا مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسورية.

وعلى أي حال، وبعد شهور من الأخذ والرد، وانقطاع العلاقات بين سعد الحريري والرئيس السوري، أعلن السعوديون عن الانسحاب من مبادرة الوساطة، فبدأت سورية تعمل في ظل هذا الانكشاف - مع الحزب - على التخلص من سعد الحريري، والمجيء بشخصية سنية تقبل بما رفضه الحريري، ورفضه تياره، ورفضته قوى 14 آذار. ولسبب أو آخر ما، وجد الطرفان (النظام السوري، وحزب الله) أن الرئيس كرامي يستطيع تحقيق مطالبهم. ثم إنه لا علاقة له بأي أطراف دولية يمكن أن تساعد في فرضه. وفي ذلك الوقت، كان السوريون والحزب وفي الواجهة الجنرال عون، قد أسقطوا حكومة الحريري بالاستقالات، وانتقلوا لاستقبال الوساطات وبلورة الإخراج، فطلبوا من رئيس الجمهورية تأجيل الاستشارات بعد أن كانوا قد طالبوا بالإسراع فيها - لأنّ الأكثرية كانت ما تزال مع الحريري - وجاء الوسيطان التركي والقطري إلى بيروت بعد سورية، فأبلغوا في المكانين أن هناك فيتو على شخص الرئيس الحريري. ولذلك آثر التركي الانسحاب، ونصح القطري الأسد بعدم الإقدام على هذا الأمر، لأنّ ذلك يعني خلافاً مع السعودية لسنوات، وزيادة للنفوذ الإيراني. وفي ذلك الوقت أيضا، كان ميقاتي قد استدعي وطلب إليه السعي إلى الحصول على تغطية أو تغطيات، فاتصل بكل الأطراف، كما فعل في المرة الأولى على أثر استشهاد الرئيس الحريري. يومها كان تيري رود لارسن المبعوث الدولي، وبعض السفراء، هم الذين نظموا العملية له وسط الرضا السوري، في الوقت الذي كان فيه الرئيس السوري يخرج قواته من لبنان في ظل صخب مظاهرات قوى 14 آذار. أما هذه المرة، فإنّ السوريين وبعض الفرنسيين أوردوا عدة اعتبارات؛ أولها أن الأزمة اللبنانية لن تنحل الآن، والمطلوب إدارتها بطرائق تتجنب التوتر المتصاعد وسفك الدم؛ وثانيها أنه لا بد من إشراك سورية في الإدارة بسبب موقعها المتوسط والأقرب لإيران، ووجود مشتركات بينها وبين حزب الله في الملفات المطروحة؛ بحيث يكون لها اهتمام وتأمين للاستقرار مؤقتا من جهة، مقابل استعادة بعض النفوذ، واستمرار العلاقة المتجددة مع أميركا والغرب على مشارف عام 2011، الحافل بالأخطار. وثالثها أن ميقاتي شخصية مالية، لا تثير مخاوف القطاع البنكي في لبنان، وربما في الأوساط المالية الغربية في الشهور الأولى على الأقل؛ وهكذا يبقى الاستقرار المالي، وربما الاستقرار الإداري بالدولة، لأمد لن يطول على أي حال، وتطويه الأحداث. لكنه في الأمد القصير مفيد لسورية وحزب الله أيضا وكل الهدف أو الأهداف التي يسعى إليها. وهذا سبب مطالبة الأمين العام للحزب بإعطاء ميقاتي «فرصة». وقد عنى بذلك التسليم الداخلي به، أما لناحية إسرائيل فهو كفيل بها كما قال، لأنه لا الحكومة السابقة (الحريري) ولا الحكومة القادمة (ميقاتي) لها أي جهد ضد إسرائيل. وإنما «الأمر الاستراتيجي» شراكة - كما ورد في بيان حكومة سعد الحريري - بين الشعب (والحزب هو الشعب كله!)، والجيش (وقد كان قائده يزور سورية يوم إسقاط حكومة سعد الحريري)، والمقاومة (والأمين العام للحزب هو الموضوع هنا أيضا).

وعلى مشارف إجراء الاستشارات للمرة الثانية، كان الأمر قد ترتب تماما. وقد انصب الجهد على «طمأنة» بعض قوى 14 آذار أنهم إن ظلوا «مؤدبين» فقد لا يجري الفتك بهم سياسيا أو ما هو أكثر من ذلك؛ باستثناء سمير جعجع الذي قالوا إنهم لن «يعفوا» عنه أبدا! وكانت المفاجأة خروج جمهور أهل السنة إلى الشارع في هبة لا تشكل دعما لسعد الحريري وحملة على ميقاتي؛ بقدر ما تعني أنهم لن يقبلوا العودة إلى ما قبل عام 2005 حين كانت سورية تشكل الحكومات، وتحدد رؤساءها ووزراءها.

إن الذي لا شك فيه الآن أن سورية حققت الاختراق الأكبر منذ خروجها من لبنان عام 2005. وأن قوى 14 آذار، وخاصة تيار المستقبل، تلقت ضربة جديدة في سياق الضربات التي بدأت بحرب مخيم نهر البارد في صيف عام 2007. وأن لبنان خطا لأول مرة خطوة متوسطة السعة باتجاه المحور الإيراني - السوري، شأن ما حدث ويحدث بالعراق وغزة. وكالعادة كانت هذه البلدان العربية مخيرة دائما (بما فيها سورية) بين الحرب الأهلية أو الانضمام إلى المعسكر الجهادي (ضد الولايات المتحدة وإسرائيل في ما يزعمون!). ويذهب سياسيون وإعلاميون لبنانيون (وبينهم بالطبع رئيس الحكومة المكلف) إلى أن كل هذه المسائل عبارة عن مبالغات لا يجوز السير فيها؛ فالنظام اللبناني قوي وما استطاع أحد تغييره خلال العقود الماضية. ولا غبار على هذا التأمل أو الأمل.

لكن النظام اللبناني مكشوف الآن، ويعتقد الذين كانوا مسيطرين عليه من قبل أن المطلوب وحسب إزالة الحريري الكبير وآثاره. بيد أنّ الحزب والإيرانيين يزداد نفوذهم في كلّ مرةٍ تصارع فيها سورية لتزعُّم أهل السنة والمسيحيين في لبنان. على أنّ هذا يعني من جهةٍ ثانية، أنّ السوريين نسُوا ردَّ الفعل لحَدَث العام 2005، وعادوا إلى الأمل أن تحتاج إليهم الولايات المتحدة، وأن تُجري صفقةً معهم: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».