معالجة مهنية لـ«كشف المستور»

TT

«كشف المستور» برنامج مثير، شعرت بالقلق والخوف حين رأيت لقطات ترويجية له، وسبب شعوري هذا هو ما يمكن أن يحدثه من تفاعلات سلبية على صعيد الاستقرار الهش والركيك في مجتمعنا الفلسطيني.. أما الخوف، فبالتأكيد كان على الصورة الوطنية، حيث ما اتهمت به طبقة سياسية بكاملها، وحسب الترويج الأولي للبرنامج، يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى.

تابعت الحلقات.. بهرني الإعداد المتقن وألعاب الغرافيك المؤثرة، أما الضيوف الذين كانوا في الاستوديو أو تم إحضارهم عبر الهاتف فكانوا قليلي التأثير في، لأن كل ما قالوه كنت قد سمعت ما هو أقسى منه وعلى لسانهم من قبل.

دعوني أتساءل: ما الرهانات التي وضعت على برنامج كهذا؟ وهل نجح في بلوغ غاياته؟

الأمر يحتمل أكثر من تفسير واستنتاج.. وأسمح لنفسي وضمن محاولة مهنية أن أعرض الرهانات وأجتهد في أمر ما نجح فيه البرنامج وما فشل.

تحت بند النجاح نضع علامات كبيرة وإيجابية، حول جاذبية الإبهار، وما أشار إلى أن وراء البرنامج جهدا مركزا ومهنية متقنة من حيث الشكل التلفزيوني، والمعالجة الفنية، وتحت بند النجاح كذلك، فقد حول البرنامج قناة «الجزيرة» إلى محكمة تقف أمامها طبقة سياسية، لتدرأ عن نفسها تهم التفريط والتنازل، حتى إن القناة حصلت وفي مواجهة مع السيد صائب عريقات، على تعهد يضع بمقتضاه جميع الوثائق التفاوضية بين يدي محرري «الجزيرة» ليثبت أنه في السليم، وأن ليس لديه ما يخفيه. وحين يعلن مفاوض أن ليس لديه ما يخفيه فمن يجرؤ بعد ذلك على أن يقول أمرا جديا ما دام هذا الأمر في لحظة ما سيكون تحت تصرف محرر في قناة فضائية.

ومثلما أشرنا إلى النجاح، لا بد من الإشارة إلى الوجه الآخر وهو الفشل.. وهنا تقاس الأمور بالرهانات؛ فإذا كانت «الجزيرة» راهنت على الحالة التونسية التي أسهمت كثيرا في بلورتها وحتى في بعض نتائجها، وأنها يمكن أن تتكرر في فلسطين.. فإن هذا الرهان فشل على نحو ذريع، ذلك أن الشارع الفلسطيني أتخم بالاتهامات والتحريضات حتى إنه لم يعد في وارد التفاعل مع أي سر يذاع. وأي خبر حول أي أمر.

لقد سهر المواطنون على مسلسل «كشف المستور»، ومنهم من كان كارها للسلطة بالبرنامج وبغيره، ومنهم من يراهن على السلطة مهما فعلت، ومنهم من لا يبالي بشيء، بفعل تراكم العجز وانعدام الخيارات..

كذلك.. فإن الرأي العام الفلسطيني ينقسم إلى فئات كان يتعين على «الجزيرة» أن تصنفها كي تعرف لمن تتوجه وكيف؟

الفئة الأولى: وهي صاحبة تقويم مسبق لـ«الجزيرة»، كقناة غير صديقة ومتحيزة للإسلام السياسي، وبالتالي فلا أمل في التأثير على هذه الفئة.

الفئة الثانية: وهي الفئة التي تعتبر «الجزيرة» منبرها الأهم، وهذه الفئة التي تجسدها حركة حماس وأنصارها، كانوا منذ زمن قد تجاوزوا ما ورد في الوثائق إلى ما هو أصعب وأقسى وأخطر. إن هذه الفئة ومن دون الحاجة إلى براهين تعتبر السلطة خائنة، وتعتبر فتح حركة عميلة، وتعتبر منظمة التحرير رجسا من عمل الشيطان فلا بد من اجتنابه.. وبالتالي، فإن تأثر هذه الفئة بـ«كشف المستور» كان نمطيا وباردا حتى إن ناطقين بلسان حالها يقولون: وما الجديد في ما نشر؟

الفئة الثالثة: وهي فئة الـ«ريموت كنترول»، التي تنتقل من قناة إلى أخرى في لمح البصر، وتحب برامج التسلية التي تنقل الإنسان من شظف الحالة التي يعيشها إلى عالم آخر فيه بعض راحة وهدوء واغتراب عن العذاب. هذه الفئة ربما يشاهد بعضها بعض أجزاء من البرنامج مشدودا إلى الإتقان في الإخراج والإثارة.. إلا أنها سرعان ما تلغي البرنامج بالتحول إلى آخر. هكذا كان الوضع وهكذا هو الآن.. وهكذا إلى يوم الدين.

الفلسطيني - كونه في حاجة إلى أن يُفهم جيدا وبصورة عملية - كره الشعارات التي اختبرت من دون جدوى، وكره الاتهامات التي لم تتوقف منذ بداية نكبته وستظل إلى ما لا نهاية.

الشعب الفلسطيني لن يتحرك إلا إذا قدم له في الواقع ما يبهج ويفيد، وهذا الأمر حتى الآن شحيح وقليل.. وأقترح على كل المنابر الإعلامية التي ترغب في اجتذاب الفلسطينيين إليها والتأثر بها، أن تعيد النظر؛ أولا: في المواضيع. وثانيا: في الأشخاص الذين يديرون هذه المواضيع. وثالثا، وهو الأهم: في المزاج الجديد لشعب أتخمت روحه وذاكرته بالمآسي والخذلان.